النسوية والتعددية الثقافية
النسوية والتعددية الثقافية:
تأليف: ديفيد ميلر
ترجمة: توفيق السيف
المرأة والأقليات الثقافية، وضعها القانوني ومكانتها في المجتمع السياسي، تشكل واحداً من أوسع مسارات النقاش في الديمقراطيات الغربية اليوم. يدعي أنصار النسوية feminists والتعددية الثقافية multiculturalists أن الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع، نظير أسئلة الهوية الشخصية، خطوط التمايز بين المجالين الخاص والعام، احترام الفروق الثقافية، قد حلّت محل الأسئلة القديمة المتعلقة بالمجتمع السياسي، الأسئلة التي ناقشناها في الفصول السابقة، من قبيل الحرية، العدالة، الديمقراطية، إلخ.
هذا يعني -وفقاً لأنصار التيار الجديد- أن طبيعة السياسة نفسها قد تغيرت، وأن بروز قضايا الهوية وانعكاساتها السياسية، كان له تأثير مهمٌّ في هذا التحول. وهم يقولون إن السياسة في هذه الأيام، ليست ما يجري من جدالات ومناورات في المباني الضخمة للمؤسسات الحكومية، بل هي تتعلق في المقام الأول بما يجري من تفاعلات يومية بين الأفراد: الرجال والنساء، البيض والسود، المسيحيون والمسلمون، إلخ.
لقد تغير موضوع الفعل السياسي وميدانه؛ الأمر الذي يقتضي إعادة تدوين الفلسفة السياسية، باتجاه التركيز على الموضوعات الجديدة لعلم السياسة والفعل السياسي.
أعتقد أن هذه المزاعم تنطوي على مبالغة. صحيح أن القضايا التي أثارتها الحركة النسوية، ونظيرتها التي تدعو للتعددية الثقافية، قضايا في غاية الأهمية، وهي تستدعي – بالتأكيد- تغييراً في تفكيرنا السياسي، لكن القول إن الأسئلة القديمة قد انتقلت إلى الهامش، أو إنها فقدت أهميتها، ادعاء يفتقر إلى الدقة. على العكس من ذلك، فإن تلك الأسئلة ستبقى ملحة كما كانت على الدوام، بل أستطيع القول إن بروز قضايا النسوية والتعدد الثقافي، قد أضافت بعداً جديداً للأسئلة السابقة.
لا شك أن بروز التيار النسوي والتعددي، قد ساهم في تغيير المشهد السياسي وما يدور فيه وحوله من أفكار. ولذا، فإن هدفي هنا هو استكشاف مدى التغيير الذي ينبغي إدخاله على تفكيرنا، في السلطة السياسية والديمقراطية والحرية والعدالة، كنتيجة لتفاعلنا مع الحجج التي يطرحها التيار الجديد[1].
دعنا نوسع مجال الرؤية، كي نرى الخيوط التي تربط أجزاء الصورة. ولنبدأ بسؤال: ماهي الظروف التي شهدت انتقال النسوية والتعددية الثقافية إلى قلب النقاش السياسي؟.
لفهم مغزى السؤال، دعنا نعرضه مقلوباً: لماذا تم تجاهل العلاقة بين الرجال والنساء، وموقف الأقليات الثقافية، بشكل متكرر، في أطروحات الفكر السياسي، قروناً عديدة؟.
من المغري النظر إلى هذا كنوع من الغفلة العامة، أو حتى القول إن القوى المهيمنة على مقادير المجتمعات، أبقت تلك القضايا المهمة بعيداً عن مجال الاهتمام.
هذا صحيح تماماً؛ لو أخذنا حالة النسوية كمثال، فإنه يصح القول إن الفلسفة السياسية في مختلف العصور السابقة، كتبت على يد رجال. في تلك الأوقات كان من المسلمات الدارجة، القول إن خضوع المرأة للرجل يعكس حقيقة طبيعية، وأنه ليس متوقعاً أن يكون للنساء دور مؤثر في الحياة السياسية، وما إلى ذلك.
بطبيعة الحال، كان ثمة استثناءات، لكنها قليلة وعرضية. كان جون ستيوارت ميل (1806-1873) على سبيل المثال، واحداً من هذه الحالات الاستثنائية[2]. أما الأعم الأغلب من المفكرين، فقد عدُّوا هامشية الدور السياسي للمرأة، أمراً مفروغاً منه، ولم يكن أحد ليجادل في الاتجاه المقابل.
بوسعنا أن نكرس جهدنا لتفصيل اللوم والنقد، لما قد نعتبره شوفينية عند المفكرين السابقين. الحقيقة أن العديد من الكتب قد كرس لهذه الغاية، لكني أجد فائدة أكبر في طريق مختلف، أكثر صراحة أيضاً، يتمثل في مساءلة مجتمعنا ذاته: ما الذي تغير حتى صرنا نحمل حجج التيارين النسوي والتعددي على محمل الجد، كيف استطعنا أن نرى أشياء كان أسلافنا قد أخفقوا في رؤيتها، من قبيل القول إنه لا يوجد أي سبب على الإطلاق، يبرر حرمان النساء من الفرص الوظيفية التي يحصل عليها الرجال؟.
الجواب، في اعتقادي، هو أننا نعيش في مجتمعات، بنيت في الأساس على الالتزام بالمبادئ الأساسية للحرية والمساواة. لكن هذه المجتمعات أخفقت في الوفاء بهذه الالتزامات، حين تعلق الأمر بالنساء والأشخاص المنتمين إلى أقليات. من أعمق المعتقدات في ثقافتنا القول إن كل شخص له حق ثابت في عيش حياته، على النحو الذي يختاره، مع مراعاة حدود معينة مثلما شرحنا في الفصل الرابع. وثمة عقيدة أخرى لا تقلّ عمقاً، وهي الحق الثابت لكل شخص في أن يعامل على قدم المساواة مع الآخرين، وهو حق ينبغي أن يتجسد في منحه حقوقاً متساوية، أو منحه فرصاً متساوية.
وبالنظر لكون هذه المعتقدات عميقة الجذور في ثقافتنا، وفي الأساس الذي قام عليه نظامنا الاجتماعي؛ فسوف يكون من المزعج حقاً أن نكتشف أن ما نمارسه في حياتنا اليومية، مغاير تماماً لما نتبناه من رؤى ومعتقدات. لا بد أننا سنشعر بالقلق الشديد، إذا استيقظنا على حقيقة أن شريحة من مجتمعنا، لا تحصل على قدر من الحرية الشخصية، مماثل لما يحصل عليه بقية أعضاء المجتمع، أو إنها تعامل بصورة غير متساوية من جانب المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة.
من هنا، فإنه -على سبيل المثال- حين تحرم المرأة من الخيار المتاح للرجل؛ أي تمكينها من الجمع بشكل متناغم بين الحياة المهنية والحياة الأسرية، أو حين يحصل أعضاء الأقليات العرقية على فرص في سوق العمل، أدنى من غيرهم، فهذا يعني أنه لا يعاملون كأحرار كاملين وأعضاء متساوين في مجتمعهم. أود أن أشير هنا إلى أن احتجاجات التيار النسوي لا تتعلق دائماً بالحرمان من الحقوق، بالمعنى الدقيق الذي توحي به الكلمة؛ ذلك أن الإقرار بحقوق النساء قد وصل إلى مستوى طيب في العديد من المجتمعات. ما يجادل دونه هؤلاء، هو المساواة في الحقوق الذي يعني إلغاء التمايز في الحقوق على أساس الجنس. ولهذا، فقد تصادفك حالات احتجاج لصالح سيدات من الطبقة الرفيعة، ولا يعانين من حرمان بالمعنى الدقيق.
من ذلك مثلاً ما قرأناه عن سيدة تعمل في إحدى المؤسسات الكبرى في المركز المالي للعاصمة لندن، أقامت دعوى أمام المحكمة؛ لأن خيارات الأسهم التي منحت لها، كانت قيمتها تقل بعدة ملايين من الجنيهات، عن تلك التي منحت لزملائها الذكور. نعتقد بطبيعة الحال، وبناء على أي معيار معقول للمقارنة، بأن هذه السيدة في حال جيد جدّاً.
رد فعلنا هذا صحيح في أحد الوجوه، لكنه خطأ في الوجه الآخر. إنه خطأ؛ لأنه يغفل التجربة المرة التي يتعرض لها ضحايا التمييز، في مجتمع يتبنى رسمياً المعاملة المتساوية بين أعضائه. تنطوي المعاملة التمييزية على نوع من هدر قيمة الضحية واستنقاصه كشخص، حتى لو كان يتمتع برفاهية العيش.
تدعو الحركة النسوية إلى تحولات في المجتمع ككل، في منظومات القيم والعلاقات السائدة، حيث تحصل المرأة على حرية كاملة ومساواة كاملة، وليس فقط اسمية أو جزئية؛ أي إلغاء أي مائز في الحقوق بين النساء والرجال.
يقدم أنصار التعددية حججاً مماثلة لما قدمه التيار النسوي، لكنها تركز على حقوق الأقليات الإثنية، الدينية، والمجموعات الأخرى، التي يتعرض أعضاؤها للتمييز، أو الذين تتعرض ثقافاتهم للاستنقاص من جانب الأكثرية المهيمنة. يجري التعبير عن هذه المواقف بأشكال مختلفة ومتدرجة، لا أود الانشغال بتفصيلاتها الآن. سوف أركز على مقولات الحركة النسوية والتعددية التي تبدو تحديا جدياً للمفاهيم والآراء التي استعرضناها في الفصول السابقة. ستكون نقطة البداية مع القوة السياسية political power والسلطة السياسية political authority[3].
ناقشت سؤال القوة والسلطة السياسية في الفصل الثاني، في إطار مفهوم ولاية الدولة. افترضت حينئذ أن سؤالنا عن الشكل الذي ينبغي أن تتجسد فيه السلطة السياسية political authority، في إطار الدولة الحديثة على الأقل، هو في جوهره سؤال عن كيفية تشكل الدولة وتوليفها.
لكن العديد من أنصار الحركة النسوية تحدّوا هذه الطريقة في فهم السياسة. وفقاً لرؤيتهم، فإنه من العسير، بل ربما يكون مستحيلاً، أن ترسم خطاً فاصلاً بين المجال العام، حيث ينخرط الناس في علاقات سياسية مع بعضهم البعض، وبين المجال الخاص، حيث تسود العلاقات غير السياسية. بعبارة أخرى، فإنهم ينظرون إلى السياسة كظاهرة قادرة على التسلل والنفاذ، والتأثير على كل جانب من جوانب حياتنا. هذا التحدي يلخصه الشعار المشهور «كل ما هو شخصي فهو سياسي»[4].
قبولنا بهذه الحجة، يستدعي توسيع النقاش حول السلطة السياسية، حيث لا يقتصر على سلطة الدولة، بل يشمل أيضاً السلطة التي يمارسها الرجال على النساء. ما يضفي على هذا النقاش مسحة جادة، هو حقيقة أن الرجال كانوا، ولا زالوا، يمارسون سلطتهم على النساء. هذه حقيقة لا يمكن أن يماري فيها أحد، ليس في الماضي فقط، بل -إلى حد ما- في هذا اليوم أيضاً. وقد جرى هذا بطرائق عديدة، من بينها إبقاء النساء متكلات -معيشياً- على الرجال، حيث لا تستطيع المرأة العيش إلا في ظل رجل. ومن بينها أيضاً نشر الأفكار والأعراف التي تحدد صورة خاصة للدور المناسب للمرأة في الحياة، وهي أفكار جعلت النساء أنفسهن يتقبلن الفكرة السابقة. ومن الطرائق التي استخدمت لتكريس التفاوت بين الجنسين، نذكر أيضاً استعراض الذكور للقوة الجسدية والعقاب، إذا أبت المرأة الإذعان لأمرهم.
هذه بطبيعة الحال ادعاءات عامة حول العلاقة بين الرجال والنساء، وهي لا تعني أن كل رجل في العالم سوف يستعمل الوسائل المذكورة لإخضاع النساء، لسبب وجيه ومعروف، وهو أن النساء يجدن في غالب الأحوال وسائل للرد على تلك المحاولات. هذا ليس إذن الغرض من تلك الادعاءات، بل غرضها هو الإشارة إلى نوع من السلطة التي ظلت غير مرئية في الفلسفة السياسية، وهي تتلخص في اعتبار السياسة ميداناً لعمل الرجال. ربما لم تذكر هذه الفكرة إلا نادراً، لكنها شكلت خلفية لتفكير العديد من فلاسفة السياسة أثناء كتابة أعمالهم. حين كتب فلاسفة مثل توماس هوبز عن صراعات السلطة وكيفية السيطرة عليها، فإنه كان يفكر في صراعات بين الرجال، كما لو أن القضايا الإشكالية في العلاقة بين الجنسين قد حلت، أو أنها ليست مشكلة أصلاً، وربما لم يخطر في باله أن النساء سيكنَّ طرفاً في هذه الصراعات أو جزءاً منها[5].
ميزات السلطة السياسية
أيّاً كان الحال، فإن ما قلناه سابقاً لا يعني بالضرورة، أن علينا أن نشرع بالتفكير في علاقة الرجال بالنساء، باعتبارها علاقة سياسية. من المفهوم طبعا، أن السياسة تدور حول السلطة والقوة، من ينبغي أن يحصل عليها، وكيف يمكن التحكم فيها. لكن الواضح للجميع أنه ليست كل علاقة قوة، هي علاقة سياسية. ثمة أنواع عديدة من العلاقات التي تنطوي على تفاوت في القوة، وتتضمن ممارسة لنوع من السلطة، إلا أنه لا يمكن القول إنها علاقة سياسية. من ذلك مثلاً سلطة المعلم على تلاميذه، سلطة صاحب العمل على موظفيه، سلطة الجنرال على جنده. في كل من هذه الحالات، يمكن للطرف الأول أن يلزم الثاني بالتصرف وفقاً للطريقة التي يقررها هو، إلزاماً يبنى على أرضيات مختلفة، فمرة يكون المبرر هو القبول الطوعي بحق الطرف الأول في ممارسة السلطة، ومرة يكون المبرر هو قدرة الطرف الأول على التهديد بإيذاء الثاني، إن لم يخضع، وخوف الطرف الثاني من الأذى بأيّ شكل، مثل الاعتقال، أو المحاكمة، أو الفصل من العمل.. إلخ.
نحن لا نعتبر هذه العلاقات سياسية، رغم وضوح فارق القوة بين طرفيها. من هنا فإننا بحاجة إلى التفكير في العوامل التي تجعل السياسة جزءاً متميزاً من حياة البشر، وأبرزها عاملان:
الأول: بالرغم من أنها تنطوي على صناعة قرارات وتطبيق قرارات، فإن هذا الفعل يجري بطريقة خاصة يمتاز بها حقل السياسة عن سواه. وأبرز سمات الطريق السياسي، أنه يتنجز من خلال منح الفرصة للآراء المختلفة والمصالح المتباينة، كي يكون لها صوت مسموع وإرادة ملحوظة.
هذا لا يعني أن السياسة ديمقراطية بالضرورة، فقد نجد السياسة في الدواوين الملكية، وقد نجدها مشوبة بالعيوب الأخلاقية؛ فبعضها لا يخلو من التهديد والمساومات، إضافة إلى النقاش والمحاججة. في المقابل فإنه لا توجد سياسة في ظل الاستبداد؛ أي إننا لا نطلق صفة السياسة على ممارسة المستبد للسلطة: حيثما أمكن للدكتاتور أن يفرض إرادته، من دون أن يصغي لأي صوت غير صوته، أو يستشير أي طرف ذي صلة أو جهة ذات مصلحة في الموضوع، فلن تكون هناك سياسة. السياسة -ببساطة- هي التداول بين ذوي الأفكار وممثلي المصالح، ثم اتخاذ القرار.
الثاني: من حيث المبدأ، يمكن للسلطة السياسية أن تطال كل جانب في حياة البشر. صحيح أننا نستطيع تقييدها، بل ينبغي لنا أن نقيدها، مع ذلك، ينبغي أن نرسم حدوداً واضحة للمجال الخاص الذي نمارس فيه حرياتنا الشخصية، والذي لا يسمح للقرار السياسي بأن يتجاوزه أو يخترقه. وقد ذكرنا في الفصل الرابع أن هذا الفعل، أي رسم الحدود، هو فعل سياسي.
إضافة إلى ما سبق، فإن السياسة هي الوسيلة التي نستخدمها لتحديد مقدار ونوع السلطة التي سوف نفوضها لأفراد الشعب، كي يستعملها كل منهم في مختلف مجاري الحياة الاجتماعية.
حين نحتاج لمنح المعلم سلطة على تلاميذه، وتعيين حدود وأغراض تلك السلطة، فنحن نحتاج لاتخاذ قرار سياسي بهذا الشأن. وحين نحتاج لوضع نظام يشرح الحقوق والالتزامات المتبادلة بين العمال وأرباب عملهم، فإننا نصدر النظام بقرار سياسي، وكذا إذا احتجنا لتعيين ما يسمح للجنرالات بفعله في إطار إدارة الجيش وما يمنع عليهم.
هذه السمات المميزة التي تتسم بها السياسة، تجعلنا قادرين على وضع التحدي النسوي للسلطة السياسية، في إطار مختلف: فما يشير إليه أنصار الحركة النسوية، في خصوص العلاقة بين الرجال والنساء، ليس -في حقيقة الأمر- الطبيعة السياسية لتلك العلاقة، بل هو إخفاق السياسة في معالجة الإشكالات التي تثيرها تلك العلاقة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن السلطة السياسية، بالشكل الذي تشكلت وتجسدت فيه حتى اليوم، لم تضع معايير كافية لتنظيم العلاقة الخاصة القائمة بين الجنسين.
لم تضع السلطة السياسية، بالشكل الذي تشكلت به حتى الآن، معايير مناسبة للعلاقات الحميمة الخاصة القائمة بين الجنسين. وقد أخفقت في معالجة العديد من الإشكالات المتولدة عن تلك العلاقة. من ذلك مثلاً أنها لم تمنح المرأة الأمان البدني الكافي، لا سيما الحماية من العنف المنزلي، ولم تؤمن للمرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجال، في العديد من جوانب الحياة، كما لم توفر لها الحرية الشخصية الكافية (سوف أعالج بعد قليل ما أعنيه بهذا الكلام). إخفاقات السياسة هذه، هي التي فتحت الباب أمام ممارسة الرجال سلطة على النساء في حياتهن الشخصية. ولو سألتني عن السبب الجوهري وراء هذا كله، لقلت لك إن السبب الرئيس هو استبعاد النساء من الحياة السياسية، بشكل كلّي تقريباً، طيلة قرون.
النقد النسوي/التعددي للحرية
سوف أنظر عن قرب في مسألة الحرية، على ضوء النقد الموجه من جانب التيارين النسوي والتعددي، ثم أناقش احتجاجهم على الديمقراطية في الصورة التي نعرفها اليوم.
أسلفنا القول في الفصل الرابع، بأننا نفهم الحرية في معنى توفر نطاق من الأفعال يحميه القانون، ويتمتع كل فرد في إطاره بالفرصة والقدرة على صياغة حياته وطريقة عيشه، على الوجه الذي يحقق سعادته، وينجز ما يستطيع من تطلعاته.
لقد تحدى أنصار التيارين النسوي والتعددي هذه الفكرة، بطريقتين:
أولاً: جادلوا بأن الفلاسفة السياسيين قد أخطأوا، حين افترضوا أن المرأة تملك قدراً كبيراً من الحرية (أو ربما حرية كاملة) ضمن النطاق الخاص؛ فالواقع يخبرنا أن ما تملكه المرأة بالفعل، في هذا النطاق، أقل بكثير مما افترضه الفلاسفة.
ثانياً: جادلوا بأن بعض السلوكيات التي قد تبدو متعلقة تماماً بذات الإنسان -وفقاً لوصف ستيوارت ميل[6]– يمكن أن تكون لها -في الواقع- آثار مدمرة على مصالح المرأة.
لقد رأينا أن مفهوم الحرية يتضمن تعدد الخيارات المتاحة والمفتوحة للفرد، وكونه -بطبيعة الحال- قادراً على الاختيار فيما بينها. نعلم أن الخيارات التي كانت متاحة للغالبية العظمى من النساء، في الأزمان السابقة، محدودة للغاية. فقد كانت مقصورة على الزواج وتربية الأطفال، والعمل ضمن العائلة أو في عدد محدود من المهن المرتبطة بالعائلة ارتباطاً وثيقاً.
أما في القرن العشرين، فقد تغير الحال بشكل جذري، حيث زالت الكثير من القيود الخارجية التي تحدّ من حرية المرأة. بات جميع المهن على وجه التقريب متاحاً للنساء، من الناحية الرسمية والنظرية على الأقل. كما اتسعت الخيارات الحقيقية للمرأة في مجال العلاقات الشخصية، سواء تعلق الأمر بالزواج أو بمطلق العلاقة بين الجنسين، وكذا إنجاب الأطفال، وما إلى ذلك.
لا أريد القول إن النساء حصلن على ذات المستوى من الحرية التي يتمتع بها الرجال، في مختلف النواحي؛ ذلك أن أحد جوانب الحرية، مشروط بالقدرة أو الرغبة في تحمل كلف معينة. على سبيل المثال، كان على النساء أن يتحملن كلفة إضافية، إذا اخترن الجمع بين الوظيفة وتربية الأطفال. لكن المسألة الأصعب، تتعلق بالجانب الداخلي للحرية؛ أعني القدرة على الاختيار.
يجادل أنصار النسوية أن النساء ما زلن أسيرات للأعراف والقواعد الراسخة في مجتمعهن، مع أنهن لم يعدن مرغمات مادّياً على الخضوع لتلك الأعراف.
وفقاً للتيار النسوي، فإن هذه الأعراف تتعلق خصوصاً بمظهر المرأة وسلوكها: كيف يجب أن تبدو، كيف ينبغي أن تتصرف، ما نوع العلاقة التي ينبغي أن تقيمها مع الرجال.. إلخ. هذه الأعراف تمسي جزءاً من ذهنيتها وهويتها، منذ المراحل المبكرة من حياتها، الأمر الذي يجعل من العسير جدّاً مقاومتها أو تحديها في المراحل التالية.
بات بوسع المرأة أن تتخذ خياراتها، وهي تقوم بذلك فعلاً، في العديد من حقول الحياة: في الوظيفة، في الدين، في نمط المعيشة بالمعنى العام.. إلخ. لكن على الدوام، كان تنجيز هذه الخيارات وتفعيلها، مقيداً ومحدوداً بإطار تمليه الأفكار السائدة حول الأنوثة. والمعروف أن هذه الخلفية قد تخلف انعكاسات مؤذية. من ذلك مثلاً أن هوس الفتيات بالمظهر الجسدي، لا سيما في سن المراهقة، يسبب أحيانا فقدان الشهية. كما أن المعتقدات المتعلقة بتقاسم الأعباء المنزلية بين الرجال والنساء، تفضي في حالات كثيرة إلى توزيع للمسؤوليات والواجبات، فيه ظلم فضيع للطرف الأضعف.
الطبيعة أم العرف
ربما لم يكن من الصعب علاج هذه القضية، لولا تشابكها مع سؤال آخر، يختلف فيه أنصار الحركة النسوية أنفسهم، أعني به سؤال الطبيعة البشرية: هل للرجال والنساء، في الجوهر، طبيعة مشتركة، أم إن ثمة اختلافات عميقة بينهم، بما يعني أنه سيكون على الدوام تفارق وتقابل في طريقة العيش التي يختارها كل من الجنسين لنفسه. إذا كان الأخير هو الصحيح، فعلينا أن لا نتعجل في افتراض، أنه حين تختار المرأة اتباع عرف ثقافي بعينه، فإن هذا الاختيار غير حقيقي؛ أي غير معبر عن إرادتها الحقيقية.
هذا لا يعني أنه يتعين علينا -من باب المثال- قبول الأعراف التي تدفع الفتيات في سن المراهقة، إلى تجويع أنفسهن من أجل الحصول على جسد أجمل. لكن لعلنا نستطيع القول، على أقل التقادير، إنه من السمات المتجذرة في طبيعة المرأة، أنها أكثر اهتماماً بمظهرها الجسدي من الرجل.
إذا اعتبرنا هذا الفارق موجوداً في الواقع، وأنه يشكل عنصر اختلاف بين الرجال والنساء، فسوف يترتب عليه القبول بوجود خيارات حياتية مختلفة؛ أي إمكانية أن تتخذ المرأة خيارات، في هذا الجانب من الحياة على الأقل، تعبر عن نمط حياتي مختلف عن ذلك الذي اختاره الرجال. هذا يعني أن اختيارها لهذا المسار انعكاس لدوافع طبيعية، وليس إملاء يفرضه العرف أو الثقافة من الخارج أو حتى من الداخل، وبالتالي فهو غير ذي صلة بحرية المرأة، وليس جزءاً من موضوعات النقاش فيها.
هذا يثير تساؤلاً ضرورياً حول المسافة بين ما هو طبيعي وما هو انعكاس للثقافة السائدة. كيف نقرر أن كان ما نشاهده من فروق في الخيارات بين الجنسين، نتاج صرف لتأثير الأعراف الاجتماعية، وبالتالي فهو قابل للتغيير، أم هو انعكاس لاختلافات متجذرة في طبيعة كل من الجنسين؟.
الحق أن هذه مسألة معقدة، وأجد أن المسار الأكثر حكمة هو الوقوف على الحياد، واتباع رأي الفيلسوف جون ستيوارت ميل، الذي سطره في كتابه «the subjection of women = استعباد النساء» الذي يعدّ واحداً من أمثلة قليلة جدّاً عن الفلسفة السياسية النسوية في الحقبة السابقة للقرن العشرين:
أنا أنكر أن شخصاً ما يعرف، أو يستطيع أن يعرف طبيعة الجنسين، طالما لم ير الرجال والنساء منفردين عن بعضهما، وطالما لم ير أي منهما إلا في إطار هذه العلاقة التي نعرفها عنهما. إذا أمكن أن نعثر على مجتمع يتألف من الرجال فقط، أو من النساء فقط، أو إذا عثرنا على مجتمع لا تخضع نساؤه لسيطرة الرجال، فقد يكون ثمة فرصة لمعرفة الاختلافات الذهنية والروحية، التي قد تكون متجذرة في طبيعة كل منهما بمفرده[7].
ما دمنا نفتقر إلى هذا الدليل الذي أشار إليه ستيوارت ميل، فلدينا سبب وجيه لتركيز أنظارنا على الإطار العام للمعيشة، والعوامل المؤثرة في مدى الحرية، بغرض التحقق من أن الخيارات المتاحة للجنسين، والتكاليف التي يتحملها كل منهما مقابل هذه الخيارات، متساوية بين الرجال والنساء.
– هل يتوجب علينا أن نفعل شيئاً يتجاوز هذا القدر؟
هل يجب أن نسعى لكسر سيطرة الأعراف الثقافية، التي تلزم النساء بطرائق محددة للتصرف، وتلزم الرجال بطرائق مختلفة، وتمنع ما عداها؟ أم ينبغي لنا -بدلاً من ذلك- أن نسعى لجعل الأعراف التي تصنف تقليدياً كأعراف نسائية، مساوية من حيث القيمة والتقدير لتلك التي صنفت تقليدياً كأعراف رجالية؟
هذه، في رأيي، ستبقى نقطة تجاذب شديد بين أنصار الحركة النسوية أنفسهم.
هذه المشكلة ذاتها، تواجه المنتمين إلى أقليات ثقافية، حين تكون هويتهم الدينية أو العرقية مختلفة عن تلك الخاصة بأكثرية أعضاء المجتمع. فعلى الرغم من أن القانون في المجتمعات الليبرالية الحديثة، يمنح الجميع، أعضاء الأقلية والأكثرية، نفس الحقوق والفرص، في مختلف الحقول كالتعليم والوظيفة، لكن ثمة -في أغلب الأحيان- كلف إضافية مرتبطة بهذه الخيارات. من ذلك مثلاً وضع شروط يصعب على أعضاء الأقليات الامتثال لها، ومنها الشروط الخاصة باللباس، التي ربما تتعارض مع قواعد اللباس الدينية أو العرفية الخاصة بالجماعة، ومنها أيضاً إلزامهم بالعمل في أوقات تتعارض مع قيمهم الدينية (مثل إلزام شخص يهودي بالعمل يوم السبت)، وما إلى ذلك.
يجادل أنصار التعددية الثقافية، أن فكرة المساواة في الفرص لا ينبغي أن تقتصر على المعنى الشكلي. تكمن المشكلة هنا في أن الكلف التي افترضنا أنها إضافية، قد تبدو وكأنها موضوع اختيار من قبل الشخص، وليست إملاء من الخارج: إذا اخترت، لأسباب دينية، عدم تناول لحم الخنزير، على سبيل المثال، فمن الواضح أن هذا لا يمثل قيداً على حرّيتي: فالقيود مفروضة ذاتياً؛ فكيف يختلف الحال إذن إذا رفض أرباب العمل توظيفي؛ لأنني قررت بمحض اختياري أن أرتدي لباساً بشكل معين أو طراز خاص. إنه خياري الشخصي، ويمكنني اختيار ملابس من طراز آخر كي أحصل على الوظيفة.
لمعالجة هذه المشكلة، نحتاج إلى تحديد ما إذا كانت القواعد الخاصة باللباس، أو الشروط الأخرى، أساسية فعلاً للوظيفة التي نتحدث عنها. نعلم مثلاً أنه قد يجري إلزام الموظفين بملابس ذات مواصفات خاصة، من أجل السلامة. في حالات أخرى، قد تكون هناك مبررات جمالية، من قبيل إلزام الممثلين والراقصين، بارتداء الأزياء التي يختارها مصمم العمل الفني.
الفرضية في كل هذه الحالات، هي أن التقييد كان انعكاساً لحاجة أساسية للعمل، ولا علاقة له بشاغل الوظيفة. لكن لو لم يكن الأمر على هذا النحو؛ أي لو أن قواعد اللباس تلك كانت مجرد امتداد لعرف عادي، فعندئذ يمكن لأعضاء الأقليات الثقافية الرافضين للالتزام بتلك القواعد، أن يدعوا (ودعواهم ستكون مبررة) أن تلك القواعد يجب أن تلغى أو على الأقل تخفف، وإلا فإن حريتهم في اختيار الوظيفة، وخياراتهم في العموم تتعرض للهدر أو تتقلص (نشير هنا إلى أنه من الواجب على أعضاء الأقليات الثقافية الذين يدعون الضرر بسبب قواعد اللباس تلك، أن يثبتوا بأن متطلباتهم الخاصة باللباس لها جذور ثقافية عميقة، حيث يكون انتهاكها مكلفاً اجتماعياً أو روحياً للأفراد المعنيين).
يوضح هذا النقاش كيف أن التحدي المنبعث من الحركة النسوية والتعددية، قد يضطرنا لمراجعة بعض القناعات الراسخة. هذا لا يتناول فكرة الحرية نفسها، بل فهمنا للظروف التي تساعد الناس على أن يكونوا أحراراً حقاً في اختيار طريقهم في الحياة، أو تسهم في تقليص خياراتهم. وهذا بنفسه يقال أيضاً حين ننظر إلى حدود تلك الحرية. وقد عرضت في الفصل الرابع أمثلة، توضح كيف أن السلوك الذي قد يفسره الآخرون كعدوان صرف، وليس مجرد فعل «متعلق بالآخرين other-regarding» وفق تعريف ميل[8]، كيف يمكن له أن يتحول إلى ما هو أكثر من ذلك؛ أي إلى عدوان حقيقي أو تهديد بالعدوان، إذا اضطر الناس المتأثرون به لتغيير سلوكهم الخاص، نتيجة لضغطه أو لتفادي الأضرار المحتملة من ورائه.
ربما يرغب أنصار الحركة النسوية والتعددية، في دفع هذه المحاججة خطوات أخرى أبعد من ذلك. ربما يزعمون، مثلاً، أن الطريقة التي يتم بها تصوير النساء والأقليات الثقافية، وخاصة في وسائل الإعلام الشعبية، قد تخلف تداعيات سيئة جدّاً على نظرة الناس إليهم وتعاملهم معهم.. إذا تم تمثيل النساء كأدوات للمتعة، على سبيل المثال، أو تم تصوير السود على أنهم مجرمون أو تجار مخدرات، فإن هذا سيؤثر، ربما دون وعي، على موقف الأشخاص الذين يتولون اختيار المرشحين للوظائف، أو يقررون الترقيات. المعنى الضمني لهذه الحجة، هو أن حرية التعبير ينبغي أن تكون محدودة بدرجة تزيد عما كنا نعتقد في السابق، وأنه يجب منع التعبيرات التي تؤدي للأضرار بمصالح الفئات الضعيفة.
هذا هو السبب وراء مطالبة أنصار الحركة النسوية بحظر المواد الإباحية[9]، وهو أيضاً الذي دفع ممثلي الأقليات الدينية للمطالبة بتطبيق قوانين التجديف التي تحظر التعبيرات المهينة لرموزهم الدينية، كما فعل بعض المسلمين حين نشر سلمان رشدي كتابه «آيات شيطانية».[10]
هذه المطالبات تثير مشكلات سياسية وقانونية، في المجتمعات التي تتبنّى بقوة مبدأ الحرية الفردية؛ فهم يقولون إن الحرية، في نهاية المطاف، ذات قيمة رفيعة؛ لأن الإيمان بها وتوفرها في المجتمع، هو الذي يعطي الأفراد فرصة لتحدي الأعراف السائدة، بل حتى إثارة الغضب والتسبب في صدمات أحياناً، على أمل أن يدفعوا الآخرين للتفكير ومساءلة قناعاتهم ومعتقداتهم الراهنة. لولا السماح بالنقد الحر للأعراف والمذاهب والقناعات على اختلاف أشكالها وأنواعها، لما كانت لدينا حياة ثقافية وحوار. فكيف يمكننا أن نتقبل التعبير أو السلوك الذي قد يفسر كهجوم أو إهانة للقناعات التي يتبناها مجموعة من الناس، ثم نستدير ونطالب بحظر التعبير أو السلوك الذي يسيء إلى مجموعة أخرى؟.
إنه لعسير جدّاً أن ترسم خطّاً واضحاً، يفصل بين أشكال التعبير التي ينظر إليها كوسيلة لتحرير العقول ومساءلة القناعات، على الرغم من كونها مزعجة لبعض الناس، وبين أشكال التعبير التي لا تنطوي على مضمون تحرري، بل هي عدوان صرف أو إهانة صرفة. من الصعب حقّاً أن تتوصل إلى اتفاق بين الأشخاص المختلفين على حد واضح يفصل بين النوعين.
نتيجة لهذا، فقد نرجح أن نترك للقانون، ولو كان فظّاً، أن ينظم هذا المجال بقدر ما يمكن. لكن في كل الأحوال لا ينبغي الحيلولة دون قيام الناس بالاختيار لأنفسهم، والحكم على ما يرونه تعبيراً مقبولاً عن الرأي، وما لا يرونه كذلك، والتعامل مع الطرفين بلين وتسامح. هذا لا يحول بطبيعة الحال دون استثناء بعض الحالات القصوى، مثل الخطاب العنصري في الأماكن العامة، الذي يمكن أن يبقى محظوراً.
من المفيد أن نختم هذا النقاش بالتأكيد أن احترام معتقدات الآخرين ورموزهم، لا ينبغي أن يصل إلى حد استبعاد النقاش العام حول هذه المعتقدات. النقاش العام يعمق معرفة الناس من مختلف الانتماءات ببعضهم، كما يزيدهم وعياً بما يجده كل منهم مسيئاً أو مهيناً، مما يعزز احترام بعضهم لبعض، فضلاً عن دوره في الكشف عما ينطوي عليه التعدد الثقافي من إغناء للثقافة الوطنية ككل، وهذا من الأمور المهمة في مجتمع متعدد الثقافات. من المهم في الوقت نفسه الإشارة إلى خطورة الجمود الثقافي الذي ربما ينتج عن الدوغمائية السياسية political correctness، وخصوصاً في حال احتواء المعتقدات أو العناصر الثقافية موضع النقد، على مضامين معادية للقيم الكبرى للإنسان الحديث، ولا سيما الحرية والمساواة، ومن بينها طبعا الحقوق المتساوية للنساء. لا ينبغي أن نتردد أبداً في نقد هذه المضامين بكل قوة، حتى لو عدَّها بعض الناس عدوانية أو مسيئة.
الديمقراطية وتمثيل الأقليات
سوف أناقش الآن حجج الحركة النسوية والتعددية، في خصوص ممارسة المبادئ الديمقراطية على النحو السائد اليوم. وأبدأ بالإشارة إلى شكوى واقعية تعرفها غالبية المجتمعات التي تسير حياتها السياسية بواسطة الاقتراع العام، تتناول هذه الشكوى الغياب النسبي للمرأة وممثلي الأقليات الثقافية عن المجالس التشريعية، أو ضعف تمثيلها. وهذا يشكل قضية رئيسة لكل من الحركة النسوية والتعددية على السواء.
لماذا يتوجب علينا الاهتمام بهذا الأمر؟ طالما جرى انتخاب كافة أعضاء المجالس التشريعية من قبل الشعب، وكانوا مسؤولين أمام ناخبيهم، فإنه يتوقع أن يتولى هؤلاء إيصال صوت الجميع، رجالاً ونساء، المنتمون لمجتمع الأكثرية ونظراؤهم في الأقلية. لهذا فإنه حتى مع وجود عدد قليل من النساء وأعضاء الأقليات في البرلمان، فإن هموم ناخبيهم سيجري التعبير عنها من خلالهم ومن خلال ممثلي الأكثرية أيضاً. بعبارة أخرى، فإن ما هو مهم في النظم الديمقراطية، هو آليات المحاسبة والمساءلة، التي نستعملها للتحقق من أن حقوق المواطنين تحظى بالرعاية. ما ينبغي الاهتمام به هو وجود ونشاط هذه الآليات، وليس من يجلس فعلياً على كرسي البرلمان.
من المتوقع أن لا يرضى أنصار الحركة النسوية والتعددية بالرد السابق. فهو -في رأيهم على الأقل- يغفل حقيقة أن النواب المنتخبين، في الديمقراطيات القائمة على الأقل، مستقلون عن ناخبيهم إلى حد كبير. فهم يناقشون القضايا ويقررون آراءهم ويصوتون في البرلمان، من دون الاستماع لرأي ناخبيهم فيها، بل ومن دون أن تتاح لهؤلاء الناخبين فرصة الاطلاع عليها أو مناقشتها. وقد ناقشت في الفصل الثالث طرائق تعميق الديمقراطية، وإشراك المواطنين بشكل كامل في اتخاذ القرارات، فلو تم الأخذ بما اقترحته هناك، فلعل صفة العضو المنتخب لا تمسي ذات أهمية قصوى. لكن واقع الحال اليوم ليس كما نتوخى ونأمل. ولهذا، فإن صفة العضو الذي يمثل الشعب في البرلمان، ذات أهمية كبرى.
ثمة إضافة إلى ما سبق، حجة أخرى تدعم الدعوة لزيادة تمثيل المرأة والأقليات في البرلمان. وخلاصتها أن هناك قضايا مهمة، ليس من السهل عليك فهم جوهرها وفهم المصالح المرتبطة بها، ما لم تكن منتمياً إلى هذه المجموعة. قد يطرح على البرلمان سؤال أو شكوى حول قضية تمييز في الوظيفة، متصل بممارسة دينية (لبس الحجاب لسيدة مسلمة أو العمامة لموظف من السيخ مثلاً). فمن المهم في هذه الحالة أن يشارك في النقاش، أشخاص قادرون على شرح معنى الممارسة أو مركزيتها، وانعكاس الحرمان منها على حياة المجموعة المعنية. وينطبق الشيء نفسه على القضايا التي لها علاقة خاصة بالمرأة، من قبيل إجازة الأمومة أو رعاية الطفل.. إلخ.
زيادة تمثيل النساء والأقليات في المجالس التشريعية، لا يعني بطبيعة الحال، أن يكون عدد النواب متناسباً بشكل صارم ودقيق، مع نسبة الشريحة التي يمثلونها إلى المجموع. المقصود على وجه التحديد أن كل مجموعة أو دائرة مصالح ذات حجم معقول، ينبغي أن تتمثل في الهيئة التشريعية. تنطلق هذه الفكرة من وصفي السابق للديمقراطية؛ أي كونها نظاماً للتوصل إلى قرار سياسي، من خلال النقاش المفتوح بين كافة المعنيين بموضوع النقاش.
من المفترض أن يكون أعضاء الهيئات التشريعية، وكذا كل شخص من المعنيين، مستعدّاً لسماع الحجج التي يعرضها الجانب الآخر، وتقييمها اعتماداً على معايير الإنصاف، وربما تغيير وجهات نظرهم إذا اقتنعوا بتلك الحجج. هذا في الحالات المثالية، لكننا نعلم أن النظم الديمقراطية لا تعمل دائماً على هذا النحو. مع ذلك، فإنه ينبغي لمجموعات الأقليات والأشخاص أو الهيئات التي تمثلهم على وجه الخصوص، أن يسلكوا هذا الطريق بقدر الإمكان. فهم في نهاية المطاف أقلية. فإذا تخلى كل منا عن معايير الإنصاف (التي قد تدعم الحجة المضادة له في بعض الأحيان) وصوت بناء على مصالحه الطائفية أو العرقية، فإن الأقليات ستكون دائما في الطرف الخاسر. إن قوة الحجة والتمسك بمعايير الإنصاف هو السلاح الوحيد للأقلية، ويجب أن لا تفرط فيه أبداً.
يرد أنصار الحركة النسوية والتيار التعددي على هذه الحجة، بحجة مضادة، فحواها أن المسألة لا تتعلق بالإنصاف أو عدمه، بل بالإجراءات والآليات العملية، التي ليست في صالح الأقليات. إن الفكرة القائلة بضرورة حسم القضايا الخلافية بواسطة النقاش المنطقي، تصب في صالح أولئك الذين تمرّنوا وبرعوا في هذا النوع من المناقشات؛ أي الطرف الذي كان دائماً يدير الأمور في الحكومة أو البرلمان. ويؤكد أولئك على حاجة النساء والأقليات، لاستخدام خطاب أكثر حماسة وإقناعاً في الدفاع عن مطالبهم. كما يقترحون منح الأقليات والنساء حقاً أو أولوية، في اتخاذ القرار المتعلق بالقضايا التي تتعلق بهم مباشرة، مثل حقوق الإنجاب، الإجهاض، ومنع الحمل، وأمثالها من القضايا التي ينبغي -وفقاً لرؤيتهم- أن يترك القرار فيها للنساء حصراً.
حين ناقشت المشكلة العامة للأقليات، في الفصل الثالث، جادلت أن على النظم الديمقراطية أن تتقبل فكرة تكريس منظومة من الحقوق الأساسية في الدستور، تستهدف في المقام الأول حماية الأقليات من الإجراءات المنحازة، التي ربما تتخذها الأغلبية غير المنصفة. اقترحت أيضاً إنشاء دوائر انتخابية منفصلة، من أجل التعامل مع القضايا المختلفة، كما يحصل في النظام الفيدرالي، وهو اقتراح يمكن إقامته على أرضية القيم الديمقراطية ومبرراتها.
أردت القول إن مطالب الأقليات والحركة النسوية، يمكن معالجتها بشكل منصف، في إطار النظام الديمقراطي ومؤسساته. لكن المشكلة ليست في قلة الحلول أو غيابها، بل في حقيقة أن العديد من القضايا التي تؤرق هذين الفريقين، هي أيضاً مصدر قلق للمجموعات الأخرى، لكن في اتجاه مخالف. خذ مثلاً مشكلة الإجهاض. فهي تعدُّ قضية حساسة عند الحركات النسوية، وهي في الوقت ذاته مثار قلق شديد عند المجموعات الدينية. تركز الحركة النسوية في مجادلاتها على أن الإنجاب والإجهاض «حق» للمرأة، بينما تجادل المجموعات الدينية، بأن الإجهاض ينطوي على تدمير لكائن بشري له روح، وبالتالي فهو ليس حقّاً لأحد غير الخالق.
يمكن لبعض الناس أن يصفوا هذا القول بأنه محض جنون. لكن الإنصاف يقتضي القول، إنه لا يمكن للمرء رفضه، تحت هذه الحجة أو تحت غيرها، إلا إذا كان مستعدّاً لرفض كافة الحجج الثقافية الأخرى المنبعثة من أساس ديني. إن السبيل الوحيد لمعالجة هذا الخلاف هو النقاش والتفاوض، حتى نتوصل إلى موقف من الإجهاض، يحقق الحد الأدنى من مطالب الطرفين، ويحظى بقبولهما أيضاً. هذا يؤكد -مرة أخرى- الحاجة لوجود تمثيل مناسب لمختلف وجهات النظر ودوائر المصالح، في الهيئات التي سوف تتخذ القرار، أو تبني الأساس الذي على ضوئه يتخذ القرار[11].
العدالة المنزلية
فيما تبقى من هذا الفصل، سوف نعالج جوانب أخرى من سؤال العدالة، من بينها مثلاً: كيف تحدى أنصار النسوية والتعددية الثقافية، الأفكار السائدة حول العدالة الاجتماعية، وكيف ينبغي أن نتعامل مع هذه التحديات. وأريد في هذا السياق التركيز على قضيتين بالخصوص، هما:
أ) العدالة المنزلية: العلاقة بين المرأة والرجل في الحياة العائلية.
ب) التمييز الإيجابي؛ أي الإجراءات المصممة لمساعدة النساء وأعضاء الأقليات الإثنية، للوصول إلى مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل.
سوف أناقش مسألة العدالة الاجتماعية في الفصل الأخير من هذا الكتاب. وقد أشرت هناك إلى أنها تتعلق بطريقة توزيع المنافع والكلف بين الأفراد، من جانب مؤسسات المجتمع والدولة. في الماضي، كان الذي يتبادر للأذهان حين نتحدث في العدالة الاجتماعية، هو نظام الملكية والضرائب، توفير الرعاية الصحية والتعليم لعامة الناس، وما إلى ذلك. هذه بطبيعة الحال قضايا لا تزال مهمة لعامة الناس، وهم يعتبرونها جزءاً من مفهوم النظام العادل.
لكن هل سنحقق العدالة لو انحصر اهتمامنا في الآثار التوزيعية للمؤسسات العامة؟
يجادل أنصار الحركة النسوية، بأننا نحتاج أيضاً إلى مطالعة ما يحدث داخل الوحدات الاجتماعية الأولية، وأبرزها طبعاً العائلة، كي نرى كيف يجري توزيع المنافع والكلف بين أعضائها، وكيف أن نظام التوزيع داخل العائلة، يؤثر على تقاليد التوزيع الخاصة بالوظائف والدخل وما إلى ذلك، في المجتمع الواسع. ويقول هؤلاء بصورة محددة، إنه من دون ضمان العدالة في العلاقات بين الجنسين داخل المنزل، فإنه ليس متوقعاً أن تحصل المرأة على العدالة الاجتماعية مطلقاً[12].
من المرجح أن يتفق غالب الناس اليوم، على أن المرأة لم تحظ -تاريخياً- بمكانة مساوية للرجل، بل كانت دائماً تحت رحمة الرجل. قضت الأعراف بإعفاء الرجال من أيّ عمل منزلي، في الوقت الذي يتحكم في الموارد المالية للعائلة، نظراً لكونه المسؤول عن توفير مصادر المعيشة.
لكن يبدو الوضع الآن مختلفاً بعض الشيء؛ فقد حصلت المرأة على استقلالها في المجال العام، ومن ثم استعادت حقوقها القانونية والسياسية والحق المتساوي في سوق العمل. ولعله من الممكن القول، بناء على التحولات المذكورة، إن علاقة الرجال والنساء داخل العائلة، قد تعرضت لتغيير جوهري. في الوقت الحاضر يتعامل الرجال والنساء في إطار شروط متساوية. بعبارة أخرى، فإن حصول المرأة على العدالة الاجتماعية (بالمعنى المتعارف) يعني أن الخطوة اللاحقة ستكون بالتأكيد هي العدالة المنزلية.
يبدو هذا صحيحاً على المستوى النظري فحسب. إن حصول المرأة على مكانة متساوية (في القانون) لم يؤدّ إلى حصولها على نفس المكانة في سوق العمل، ولم ينعكس بنفس القدر على العلاقة في المنزل. لا شك أن وضع المرأة قد شهد تطوراً إيجابياً في نواح عديدة. لكن سيكون من ضروب المبالغة القول إن التمييز قد تلاشى. فالمشهود أنه لا زال ثمة قدر كبير من عدم المساواة، لا سيما في حصة كل من المرأة والرجل في العمل المنزلي. فحتى لو عمل الزوجان بدوام كامل، فإن المرأة لا زالت تتحمل الجزء الأكبر من أعمال المنزل، ومنها بالتأكيد أعمال مرهقة، أو على الأقل غير محببة (المؤكد أن أحداً لن يستمتع بكيّ الملابس أو تنظيف البيت حتى لو كان بالمكنسة الكهربائية). هذا التباين في المهام وجه واضح لغياب الإنصاف.
من ناحية أخرى، ثمة أسباب تبدو -ظاهرياً على الأقل- طبيعية، تؤدي إلى خسارة النساء في أي منافسة متساوية. من ذلك مثلا اضطرار المرأة لأخذ فترات راحة وظيفية طويلة نسبياً من أجل الولادة، وحين يعدن إلى الوظيفة لاحقاً، فإن كثيراً منهن يعملن بدوام جزئي، وهذا وذاك يؤدي بالضرورة إلى تقدم بطيء في السلم الوظيفي، مقارنة بزملائهن الرجال.
يوضح هذا أن التمييز الصريح بين الجنسين لا زال قائماً. لكنه فوق ذلك يفسر الأسباب الكامنة وراء حصول النساء على دخل أقل من الرجال، كما يوضح السبب الكامن وراء ضعف تمثيلهن في الوظائف العليا، في مختلف المهن (ثمة عدد قليل جدّاً من النساء في وظائف مثل الرئيس التنفيذي للشركات والقضاة والأساتذة الجامعيين.. إلخ). لكن لا ينبغي القفز إلى الاستنتاج، بأنه طالما بقي الرجال والنساء في وضع غير متساوٍ في جوانب معينة، فإن هذا دليل على غياب العدالة. في نهاية المطاف، فإن بعض النتائج غير المتساوية قد لا تكون غير عادلة بالمعنى الدقيق، إذا كانت تعكس الخيارات المختلفة التي اتخذها الناس بأنفسهم.
بعبارة أخرى ينبغي الأخذ بعين الاعتبار، الردود القائلة إن هذه الترتيبات لم تجر في الخفاء، ولم تفرض على النساء قسراً، فقد وافقن على ما بدا أنه يصب في مصلحتهن، وأنهن قد قبلن – كجزء من الصفقة التي أدت إلى إنشاء الأسرة، إن جاز التعبير – أن يتحملن عبء الأعمال المنزلية أو معظمها، وأن يكتفين بوظائف ربما تكون أقل إبهاراً من شركائهن الذكور.
– حسناً، لماذا وافقت النساء على هذا الدور وهذه المكانة؟
دعنا نفترض أنه لا تزال ثمة أعراف حول الدور المتوقع أن يلعبه كل من الجنسين في الحياة، أعراف تخبرنا أن المرأة تتحمل مسؤولية خاصة في إدارة المنزل وتربية الأبناء، بينما يتحمل الرجال مسؤولية خاصة في تدبير مصادر معيشة العائلة خارج المنزل. ومن هنا، وعلى الرغم من أن غالبية النساء يشغلن بالفعل وظائف في سوق العمل، إلا أنه ثمة ميل عند كلا الجنسين إلى اعتبار عمل المرأة هذا نوعاً من المكافأة أو مصدراً للدخل الإضافي، شيئاً مضافاً إلى المسؤوليات الأساسية التي تتحملها، وليس واحداً منها.
الجواب عن هذا الإشكال: إنه حتى لو كان عمل النساء يجري ضمن هذا المنظور، فإنه من الواضح أنه ليس في صالحهن، من حيث التوازن المفترض بين الكلف والمنافع. ربما كان هذا المنظور والأعراف الداعمة له، بعضاً من بقايا العصور القديمة، ولا يكفي القبول الاختياري بهذه الأعراف لجعلها منصفة؛ لأنه من المعروف أن العبيد أيضاً كانوا يقبلون المعايير التي تبرر استعبادهم، فهل هذا يجعلها عادلة؟
يوضح هذا النقاش أننا بحاجة للتمييز بين جانبين في النقاش: أن العدالة المنزلية لم تتحقق فعلاً في مجتمعنا. هذا شيء قد يكون صعباً نوعاً ما. لكن الأصعب حقا هو ما ينبغي قوله حول متطلبات تحقيق الإنصاف في العائلة. هل ينبغي التشديد على أن تحقيق العدالة، مشروط بالمشاركة المتساوية بين الرجل والمرأة، في كافة المنافع والأعباء الخاصة بالعائلة… أم إن ثمة مجالاً للناس كي يتوصلوا بأنفسهم إلى الترتيب الذي يريحهم، ويتناسب مع ظروفهم الخاصة، بمعنى تمكين الناس من اختيار طريقة حياتهم، ولو لم تكن مطابقة لبعض المعايير التي نتحدث عنها؟.
قد نستطيع القول إن الأمر متوقف على تزاحم الأعراف القديمة مع نظيرتها الحديثة. فور أن تختفي الأعراف القديمة التي تحدد المكان المناسب للمرأة، فإن مبدأ التوافق الحر سوف يبرز كسياق طبيعي للعلاقة بين الجنسين. وكما لاحظنا، فمن بين أنصار الحركة النسوية من يصرّ على أن ثمة فروقاً عميقة بين الرجال والنساء، لا سيما في الجانب الخاص بتربية الأبناء، وهم يرون أن المساواة المتشددة، بمثابة قسر للمرأة للتصرف على نحو يتنكر لطبيعتها كأم.
هذه الفرضية صحيحة إلى حد ما. وضمن هذا الحد، فإن الإنصاف في الحياة العائلية ينبغي أن يتوافق مع المرونة الضرورية في العلاقة بين أعضاء العائلة؛ أي أن يتقاسم الشريكان اختيارياً الأعمال داخل وخارج المنزل، تبعاً لتفضيلاتهم الشخصية وقدراتهم.
التمييز الإيجابي
النقطة الأخيرة التي أودّ مناقشتها في هذا الفصل، تتعلق بالقضايا التي أثارتها سياسات «التمييز الإيجابي affirmative action». نعلم أن أنصار الحركة النسوية والتعددية، قد تحدّوا المفهوم التقليدي لتكافؤ الفرص، والذي يعني أن الجدارة يجب أن تكون معياراً حاكماً، حين تجري المفاضلة بين المرشحين للوظائف أو المقاعد الجامعية. بدلاً من ذلك، فهم يجادلون بأن العدالة ربما تستدعي قدراً من التمييز الإيجابي لصالح المرشحين من النساء والأقليات العرقية. وبعبارة أخرى، يجب أن يمنح أعضاء هذه الفئات فرصة تفضيلية أمام لجان الاختيار. لقد تم الأخذ بسياسات كهذه على نطاق واسع، من قبل الجامعات وأرباب العمل. لكنها -مع ذلك- لا تزال مثار جدل، يتناول مقدار توافقها مع معايير العدالة[13].
نحن بحاجة لتسليط الضوء على اثنين من المبررات التي ربما تدعم سياسات التمييز الإيجابي.
المبرّر الأول: هو أن الطرائق المعيارية لقياس «الجدارة»، على سبيل المثال، تعتمد على درجات الاختبار التي يحصل عليها المتنافسون على الوظيفة أو المقعد الجامعي. هذه النتائج تميل لتهوين القابلية الحقيقية للنساء وأعضاء الأقليات. قد يكون هذا نتيجة احتواء الاختبارات على تحيزات ثقافية خفية، أو لأن المرشحين من الفئتين المذكورتين، لديهم فرص أقل لاكتساب المهارات التي جرى تصميم الاختبارات لقياسها، ربما لأن خلفيتهم التعليمية أضعف. ولعلنا نجد هذه المشكلة عند أعضاء الأقليات العرقية المحرومة، أكثر مما نجده عند النساء، نظراً لأن الفتيات يظهرن الآن ميلاً واضحاً للتفوق على الأولاد في المدرسة.
إن التفاوت في الخلفية التعليمية أو الإخفاق الناتج عن الانحياز الخفي للاختبارات، سيبقى مؤثراً في استمرار اللامساواة، ما لم يجر التعامل معه بجد. ويظهر أن سياسات التمييز الإيجابي، هي الطريقة الأفضل والأكثر واقعية لتحقيق تكافؤ الفرص. يبدو أنه لا خلاف من حيث المبدأ: موضوع النقاش هو الطريقة الأمثل للتحقق من أن المرشحين لمواقع وظيفية أو تعليمية ممتازة، هم الأشخاص الذين يستحقونها واقعياً.
المبرّر الثاني: يثير قضية مبدئية، خلاصتها أن التمثيل الفعلي للنساء والأقليات في الشرائح العليا من المجتمع، ضعيف جدّاً. ومن هنا، فإن التمييز الإيجابي يعد وسيلة معقولة لتصحيح هذا الخلل. بعبارة أخرى، يجب أن يستهدف واضعو السياسات، زيادة عدد الأشخاص الذين يمثلون النساء، والسود، والمسلمين، وبقية الأقليات، في المناصب رفيعة المستوى، في الأعمال التجارية والمهن والخدمة المدنية والتعليم العالي، وما إلى ذلك. وفقا لهذا المنظور، فإن العدالة الاجتماعية لا تتعلق حصراً بالمعاملة المنصفة للأفراد، إذ إن جانباً مهمّاً منها يتعلق بالجماعة أيضاً. نحن نصف المجتمع بالعادل، حينما تكون جميع الطبقات والشرائح والاتجاهات التي يتألف منها، حاضرة في المجالات الاجتماعية المختلفة، ولا سيما في المستويات العليا، بقدر يتناسب مع حجمها العددي.
حسناً، دعنا نفترض أن الفرص الفردية كانت متكافئة حقّاً، وأن المؤهلات كانت دائماً المعيار المؤثر في اختيار الأشخاص للوظائف والمواقع الإدارية والمهنية، وأن الجميع حظي بفرص متساوية لتطوير مهاراته وقدراته التي تصنف كمؤهل. مع ذلك، فإن مجموعات مختلفة في المجتمع استطاعت أن تحقق -في العموم- نتائج متباينة. بعضها حقق نجاحاً أكبر، فاحتل معظم الوظائف العليا، بينما فشلت المجموعة الأخرى فبقيت في القاع. فهل نستطيع القول إن المجموعة التي أخفقت، كانت ضحية لظلم جمعي؟.
هذا محتمل، إلا إذا كان أفراد هذه المجموعة، قد اختاروا – عن وعي وسابق تصميم- عدم السعي وراء الوظائف العليا، أو عدم الاجتهاد لتلبية متطلباتها، أياً كان السبب، ثقافياً أو دينياً أو اجتماعياً أو غيره.
أظن أنه من غير المرجح بشكل عام، أن يختار جمهور كبير من الناس، البقاء في وظائف متدنية، مع أن الأعلى متاحة لهم. هناك حالات -بطبيعة الحال- تكشف أن وظائف معينة تعدُّ غير ملائمة عند مجموعات بعينها، لأسباب دينية أو ثقافية أو غيرها، ولذا فهي لا تجد إقبالاً بين أعضاء هذه المجموعات. لكني أميل إلى تفسير أراه مرجحاً أكثر، وخلاصته أن المجموعات التي يكتفي أعضاؤها بالوظائف الدنيا، لأزمان متوالية، تعاني في الغالب من شعور عميق بعدم تقدير الذات (أو ربما احتقار الذات). ومن هنا، فإن توقعاتهم في الحياة، غالباً ما تكون منخفضة، ويعتقد أعضاؤها أن لديهم فرصاً قليلة جدّاً لتسلق السلم الوظيفي إلى الأعلى، ولذا فإن غالبيتهم لا يرون جدوى من محاولة الصعود.
إذا وجدنا حالة مثل هذه، فعلينا أن نشعر بالقلق. إنه لأمر سيئ لأية مجموعة، بل للمجتمع الوطني بأسره، أن تبقى شريحة من أبنائه في وضع معيشي أو حياتي متدنٍّ، أو أن يشعر أعضاؤها بالإحباط إزاء فرص التحرر من بؤسهم، إلى درجة أنهم يرون الفرص أمامهم فيعرضون عن اغتنامها. في حالات كهذه، يمكن لسياسات التمييز الإيجابي أن تلعب دوراً مؤثراً، من خلال إظهار القابليات الكامنة عند أفراد الأقليات، التي يمكن تحريرها وإطلاقها فور حصولهم على دعم أولي، من قبيل الحصول على مقعد دراسي في جامعة جيدة. يمكن لمثل هؤلاء الأشخاص أن يمثلوا نموذجاً يشجع الآخرين على السير في نفس الطريق.
انطلاقاً من هذا، فإنه يمكن تبرير سياسات التمييز الإيجابي، بالنظر إلى آثارها الإجمالية على أعضاء الأقلية والمجتمع ككل. (ربما يقدم الأمريكيون الأفارقة، أفضل مثال على نجاح هذا النوع من السياسات، وانعكاسه الإيجابي على المجتمع ككل).
تهمني الإشارة هنا إلى أن سياسات التمييز الإيجابي التي ندعو إليها هنا، لا تستمد مبرراتها من مبدأ العدالة. كما إنني لا أقول إن الجماعات العرقية أو الثقافية، أو أي من الشرائح الاجتماعية، التي ذكرت أنها محبطة وأن تطلعاتها متدنية، لا أقول إنها ضحية لانعدام العدالة، بناء على هذا المعيار وحده، بل أستطيع القول إن الحالات التي ذكرناها، قد تنطوي على تعارض بين القيم، بين وجوب المعاملة المنصفة لجميع الأفراد، بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية، من جهة، ووجوب السعي لإدماج الأقليات العرقية والثقافية في الحياة الاعتيادية للمجتمع الأوسع، كي تتقارب مستويات المعيشة بين سائر أفراد المجتمع، وتتقلص حالات التهميش.
وبهذه المناسبة، أذكر القارئ بما أشرت إليه في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، من أن على الفلاسفة السياسيين أن يقاوموا إغراء التسليم للفرضية الشائعة بين رجال السياسة، والتي فحواها أن السياسات التي يفضلونها أو يدعون إليها، صافية تماماً ولا تنطوي على أي تضارب مع القيم الأخرى، وبالتالي فهي لا تستدعي التضحية بتلك القيم.
ما أردت التوصل إليه هنا، هو أن سياسات التمييز الإيجابي ستكون متوافقة مع معايير العدالة، فقط وفقط حين يتعلق الأمر بتوفير مقومات العدالة بين الأفراد، ومن أمثلتها ما ذكرناه في السطور السابقة؛ أي استخراج القابليات الكامنة في أفراد الأقليات، القابليات التي قمعت أو اختفت لأي سبب من الأسباب.
لا بد من التأكيد أن تبقى سياسات التمييز الإيجابي، ضمن هذا الحد. فإذا تجاوزته وتحولت إلى وسيلة لرفع المكانة العامة لمجموعة أو شريحة ما، قياساً للمجموعات الأخرى، فحينها لن يبقى الأمر في إطار العدالة وضمن حدودها، حتى لو كان مرغوباً بشكل عام.
كنت قد قلت في بداية هذا الفصل إنّ أنصار التيار النسوي والتعددي، يطرحون أسئلة على فلاسفة السياسة، تحت عنوان أنها البديل الصحيح عن الأسئلة القديمة في الفلسفة السياسية. وذكرت هناك أنني لا أراها بديلاً، بل هي أقرب إلى طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. ومع وصولنا إلى نهاية الفصل، آمل أن تكون النقاشات السابقة تبريراً مناسباً لهذا الرأي.
لقد تعلمنا من الحركة النسوية والتعددية، أن نغيّر طريقة تفكيرنا في قضايا السلطة السياسية، والحرية، والديمقراطية، والعدالة. لا يقتصر الأمر على هذا. فقد أبرزت الحركة تحدّياً موازياً، يتعلق بالطريقة المناسبة لبلورة هذه المبادئ، وطريقة إنجازها في المجتمعات المتنوعة ثقافياً، المجتمعات التي تتوقع نساؤها أن يعاملن على قدم المساواة مع الرجال. ومن هنا أستطيع القول إن الكتابات التي صدرت في إطار الحركة النسوية والتعددية، قد ساهمت في إغناء نقاشات الفلسفة السياسية، وجعلتها على اتصال مباشر مع عدد من أكثر القضايا إثارة للجدل في المشهد السياسي في هذا الزمان.
[1]– للاطلاع على نقاش أوسع حول التعددية والنسوية، انظر ويلي كيمليشكا: مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة (تونس 2010) (المترجم). هناك العديد من الدراسات الوافية حول التيار النسوي، انظر مثلاً: alison jaggar and iris m. young (eds.), a companion to feminist philosophy (blackwell, 1998) أيضاً: anne phillips (ed.), feminism and politics (oxford uni press, 1998). وحول التعددية الثقافية، انظر: will kymlicka, multicultural citizenship (clarendon press, 1995), أيضاً: bhikhu parekh, rethinking multiculturalism (macmillan, 2000), وللاطلاع على قراءة نقدية في الموضوع ذاته، انظر: brian barry, culture and equality (polity press, 2001).
[2]– نشر ميل كتابه «حول الحرية» في 1858 وشدد فيه على أهمية استقلال الفرد وحريته، وكونهما ضرورة لكرامة الإنسان وكمال إنسانيته. وفي 1869 نشر كتابه الآخر «استعباد النساء» الذي عُدَّ مكملاً للأول، مع التركيز على حالة المرأة. إن لم يكن هذا أول كتاب في الدفاع عن حقوق المرأة واستقلالها، فلا شك أنه بين الأوائل في تلك الحقبة. انظر: جون س. ميل: استعباد النساء، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي (القاهرة 1998). H
[3]– حول الفارق بين القوة السياسية والسلطة السياسية، انظر: introduction to sociology, module 15: government and politics, power and authority’ lumen learning, (retrieved 2-jul-2021) https: //courses.lumenlearning.com/wmopen-introtosociology/chapter/power-and-authority (المترجم)
[4]– ينسب اطلاق هذا الشعار إلى كارول هانيش التي كانت وقتئذ (1968) ناشطة نسائية وعاملة في مجال الحقوق المدنية. انظر بهذا الصدد مقالتها المسماة «الشخصي سياسي» في ويكي الجندر (10-06-2019) https: //genderiyya.xyz/mw/index.php?title=&oldid=22356 وللاطلاع على قراءة تحليلية في الموضوع، ودور هانيش في الحركة النسوية، انظر: theresa m. l. lee: `rethinking the personal and the political: feminist activism and civic engagement’, hypatia, vol. 22, no. 4, democratic theory (autumn, 2007), pp.163-179.https: //www.jstor.org/stable/4640110 (المترجم)
[5]– للاطلاع على مبررات الدعوى القائلة، بأن سلطة الرجل على المرأة، لم يجر الاعتراف بها وبتأثيرها العميق في النقاشات الدائرة حول السلطة السياسية والولاية، انظر: carole pateman, the sexual contract (polity press, 1988). ولتحليل حول كيفية تعاطي الفلاسفة السياسيين في الماضي مع المرأة وقضاياها، انظر سوزان أوكين: النساء في الفكر السياسي الغربي، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير (بيروت 2009)
[6]– ذكرنا في الفصل الرابع رؤية ميل، وفحواها أن لكل فرد نطاقا ينبغي أن يتمتع فيه بحرية تامة غير قابلة للانتهاك أو التحديد. هذا النطاق وفقاً لرأيه، هو ذلك الذي تكون التصرفات الجارية فيه متعلقة بذات الإنسان self-regarding وليس بأحد آخر؛ بمعنى أنها، لو تسببت في أضرار، فسوف تكون مقصورة على مصالح الشخص نفسه، ولن يتضرر منها أي شخص آخر، ولذا لا ينبغي التدخل فيها أبداً.
[7]– j. s. mill: the subjection of women, 2 nd ed. london, (longman 1869), p. 38 ???ن¤ ?ن ù?è ?î? ???î? à?? ?à??è ?ن?îûè ??à??è ?نî?ن¢ ???? ?? ????? ???üüè ??¤ deborah rhode (ed.), theoretical perspectives on sexual difference (yale uni. press, 1990).
[8]– لتوضيح الفكرة هنا، ينبغي التمييز بين ثلاثة أنواع من الفعل، هي: الفعل المتعلق بالذات self-regarding؛ أي الذي ينعكس على الفاعل فقط، والفعل المتعلق بالغير other-regarding وهو الفعل الذي يبدو مثل الأول، لكنه ينعكس بشكل واضح على الآخرين (مثل تعليق صور أو شعارات تتضمن تهوينا من قيمة العرق الأسود في مصنع يعمل فيه أشخاص من ذوي البشرة السوداء). وأخيراً الفعل الذي ينطوي على عدوان صريح على الغير؛ أي إن علاقته بالغير ليست ضمنية، بل ظاهرة ومستهدفة بشكل أولي. والنقاش المذكور أعلاه يدور حول النوع الثاني؛ أي الفعل الذي يبدو متعلقاً بالغير، فهذا الفعل يمكن أن ينتهي إلى إضرار حقيقي بالأشخاص المعنيين به، وإن لم يكن متصلاً مباشرة بالشخص الذي علق تلك الصورة، مثل اضطرار أولئك الأشخاص إلى ترك وظائفهم في ذلك المكان. راجع رأي ميل بهذا الخصوص في: ج. س. ميل: حول الحرية، مصدر سابق، ص 26 ولمطالعة تحليلية في مفهوم ميل عن الفعل المتعلق بالذات والفعل المتعلق بالغير، انظر c. l. ten: `mill on self-regarding actions’, philosophy, vol. 43, no. 163 (jan., 1968), pp. 29-37 http: //www.jstor.org/stable/3749020 (المترجم)
[9]– لمرافعة قوية في دعم موقف التيار النسوي المندد بالتصوير الإباحي للنساء، انظر: catherine mackinnon, only words (harper collins, 1994).
[10]– للاطلاع على جانب من النقاشات حول قضايا حرية التعبير التي أثارها نشر كتاب سلمان رشدي «آيات شيطانية» والموقف الديني تجاه الكتاب ومؤلفه، انظر: bhikhu parekh (ed.), free speech (commission for racial equality, 1990) أيضاً: bhikhu parekh, rethinking multiculturalism (macmillan, 2000), ch. 10
[11]– للمزيد من النقاش حول مبررات وكيفية اندماج النساء والأقليات الثقافية في الحياة السياسية الديمقراطية، انظر: anne phillips, the politics of presence (clarendon press, 1995) انظر أيضاً: iris marion young, inclusion and democracy (oxford university press, 2000).
[12]– حول العدالة في إطار العائلة، انظر خصوصاً: susan moller okin, justice, gender and the family (basic books, 1989).
[13]– لمنظور تحليلي في سياسات التمييز الإيجابي، انظر: روبرت فولينوايدر: «التمييز الإيجابي» (موسوعة ستانفورد للفلسفة)، ترجمة محمد العمري، مجلة حكمة (3-ابريل-2021) https: //bit.ly/3wfolqg حول الإشكالات الفلسفية التي تثيرها سياسات التمييز الإيجابي والنقاشات المتعلقة بها انظر: stephen cahn, the affirmative action debate, 2nd edn. (routledge, 2002). انظر أيضاً: ronald dworkin’s essays collected in a matter of principle (clarendon press, 1986), part v. (المترجم)
كاتب وناشط سياسي سعودي