منزلة البينيّة في بناء المعرفة الإسلاميّة
نتخيّر الانطلاق في هذا المبحث الذي يُعنَى بالشواغل الإبستيمولوجيّة والمنهجيّة ذات الصلة ببناء المعرفة الإسلاميّة ورصْد حضور الوعي البيْنيّ لدى أصحابها باستدعاء بعض المعطيات والمواقف حول تقاطع الاختصاصات التي بَدتْ لنا ضروريّةً، لِتَبَيُّن مكانة هذا الأفق المعرفيّ في الفضاء الأكاديميّ الإسلاميّ. وأمّا الغرض من ذلك، فالرغبة في الوقوف على حجم الصعوبات التي تنتصب في وجهه، والتفكير في البرامج القادرة على جعله مَطلباً ذا أولويّة قصوى لتطوير رسالة الجامعات ومراكز البحوث العلميّة. فلا غرو أنّ مِن أسمى الوظائف الحضاريّة التي يُفتَرَضُ أن تنهض بها المؤسّسات العلميّة إعادةُ بناء العقل الإسلاميّ وتحفيزه على إنتاج المعارف التي يكون بها المسلمون طرفاً فاعلاً في المشهد المعرفيّ العالميّ.
يتعلّق المعطى الأوّل بسياسات الإنفاق التي تتّبعها بعض البلدان غير الإسلاميّة لتنمية البرامج البينيّة. خصّصت، على سبيل المثال، وزارة التربية في الكيباك في العشريّة الأخيرة من القرن العشرين ما قيمتُه مليونيْ دولار لتطوير قطاع الدراسات البينيّة المطبَّقة في مؤسّساتها التعليميّة[1]. وفي مثال آخَرَ، طلبت المؤسّسة الوطنيّة للعلوم بالولايات المتّحدة الأمريكيّة NSF من سلطة الإشراف سنة 2014 أنْ تخصّص مبلغا قيمتُه 63 مليون دولار لتمويل البحوث العابرة للاختصاصات. وما يلفتُ النظرَ في هذا المَطلَب أنّ ما كان مرصوداً لهذا النوع من البحوث تضاعف بنسبة 210% عمّا كان عليه سنة 2012[2]. وفي مثال ثالث، عَقَدَ مركز فرنسا- ستانفورد للدراسات متعدّدة الاختصاصات اتّفاقيّةً بين وزارة الخارجيّة الفرنسيّة وجامعة ستانفورد بكاليفورنيا هَدَفُها تخصيص مِنح سنويّة لتشجيع الباحثين على الكتابة في تقاطع الاختصاصات[3].
ويتعلّق المعطى الثاني بالاستراتيجية التي وضعتْها جامعة إكس مرسيليا Université d’Aix-Marseille لنفسها قصْد نَحْتِ هويّة أكاديميّة خاصّة بها، فَمْنْ يَنْظرْ في التعريف الذي جاء في صفحتها الرسميّة على شبكة الإنترنت، يَرَى أنّها اختارتْ أنْ تُعْرَفَ في الفضاء الأكاديميّ بكوْنها جامعةَ الاختصاصات المتقاطعة وطنيّاً وأوروبّياً وعالميّاً[4].
وانتقيْنا مِنَ المواقف ما يتعلّق بوَضْع التشبيك المعرفيّ في الفضاء الأكاديميّ العربيّ، فهذا ناصر الدين سعيدوني يُعبّر عن الوعي بأنّ الكتابة التاريخيّة العربيّة أضحت في حاجة إلى التجديد؛ وذلك باقتحام المعالجة المركّبة التي تتغذّى من شبكة العلوم ذات الاختصاصات المتنوّعة، فيقول: «صرتُ أنفر من معالجة أيّ موضوع تاريخيّ يعتمد على جمع المعلومات ويعرض للأحداث بأسلوب روائيّ حدثيّ، وخصوصاً أنّ النشاط الإنسانيّ يتطلّب من المؤرّخ معالجة مركّبة تخضع للشروط الطبيعيّة، والمعطيات الديمغرافيّة، والتحاليل الاجتماعيّة، والعوامل النفسيّة»[5]. وهذا وجيه كوثراني يَنقُل تجربةَ تشبيكٍ سنة 2001 في الجامعة اللّبنانيّة، ويُشير إلى المشاكل القائمة دون نجاحها، فيقول: «عندما طُرح مشروع تعديل مقرّرات ومناهج كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة… انقسم الأساتذة بين مَن يدعو إلى تجديدٍ يفتح العبور بين العلوم الإنسانيّة وأقسامها ويُقِيم الجسور بين مناهجها وطرائقها، وبين مَن كان يُصرّ على الاستقلال والدفاع عن حقل كلّ علم على حدة مضموناً وحقلاً ومنهجاً»[6].
ما يُسْتَحْصَلُ ممّا انتقيْنا أنّ فجوةً كبرى تَفْصِل بين الكتابة البيْنيّة في الممارسة الأكاديميّة الغربيّة ونظيرتِها العربيّة. وقد لا يكون في الأمر شَطَطٌ إنْ فسّرْنا جانبا من تأخّر المعرفة في المؤسّسات البحثيّة العربيّة بعَدَم اعتماد التشبيك اختيارا رسميّا في سياسات الدول واستراتيجيات إنتاج المعرفة.
وبناء على ما تَمَّ عَرْضُه من معطيات، نُقِيمُ معقوليّة هذا المبحث على فرضيّة نشتقّها من النتائج التي خَلُصْنا إليها في المبحث الأوّل، مفادها أنّ التقاطُعَ بين الاختصاصات ميزةٌ جوهريّة تتقاسمها فلسفات المعرفة تصوّراً وإجراءً وتاريخاً، ولا تنفرد بها حضارةٌ دون أخرى. وبالإمكان أنْ نؤكّد، دون تردّد، حقيقة تاريخيّة، وهي أنّ المعرفة الإسلاميّة القديمة بفروعها المتنوّعة كانت وليدةَ فكر موسوعيّ. ومَنْ يُراجع مفردة «أدب»، على سبيل المثال، يظفر دون عناء بهذه النزعة المتأصّلة فيه. وللجاحظ (159- 255هــــ) كما لابن خلدون (732- 808هــــ) وغيرهما ممّن كتب في العلوم ومصطلحاتها تعريفاتٌ وآراءُ تقوم جميعها على البعد الاستيعابيّ والشموليّ للعلوم والفنون تحت مسمّى الأدب.
قد تستوقفنا، طبعاً، بعض التنبيهات النقديّة التي يرى أصحابها أنّ عدم ضبط الحقول المعرفيّة عائد إلى غياب الوعي بمسألة الاختصاص؛ نقصد على نحو مباشر مقاربة عبد السلام المسدّي. فممّا جاء فيها، في سياق البحث عن تفسير لكثرة الموضوعات وغزارتها التي يكتب فيها الجاحظ على غير انتظام، هذا التساؤل: «أفلا تكون تلك الغزارة نفسها قد سبَّبها عدم تبلور مفهوم الاختصاص يومئذ في الثقافة العربيّة، إذ يبدو أنّ المقتضيات الظرفيّة التي حفّت بنشأة العلوم قد حتّمت ترابط مشاعب المعرفة ترابطاً يتنافى ومفهوم الاختصاص؟»[7]. ورغم ما في طرْح المسدّي من تواضع علميّ رفيع حين ترك الإجابة معلّقة عسى أنْ يتصدّى لها أهل الدراية بالإبستيمولوجيا، كان ميْلُه إلى تبنّي تفسير يُخالف ما تواضَعَ عليه الدارسون للأدب قابلاً للنقاش: «لكنّنا من موقعنا المعرفيّ المحدّد… واثقون أو كالواثقين بأنّ الجاحظ كان دون إدراك الصورة المتكاملة لفكرة الكتاب، وبالتالي كان دون القدرة على إنجاز التأليف، ولا سيما من حيث التصنيف في الأدب»[8].
نحن نميلُ إلى أنّ اشتمال الأدب على كمّ هائل من المعارف يتنزّل إبستيميّاً في نظرة العرب إلى المعرفة ودورها في بناء الإنسان. ولا نرانا مبالغين إنْ قلنا إنّ تَضَمُّنَ الأدب دلالة المعرفة من جهة، ودلالة التربية (التأدّب) من جهة ثانية يجعلنا شبهَ مطمئنّين إلى أنّ تصوّرَ المعرفة عند العرب يقوم على الغائيّة، وهي اجتماع الفضائل في الشخصيّة المستهدَفة برسالة التعلّم. وهذا يتوافق تماماً مع ما في مصطلح paideia من معاني المثاليّة والسموّ المرافِقة مَطلَبَ التعلّم. وبإمكان الباحث في هذا المجال أنْ يَرْصُدَ تطوّر مصطلح الأدب من نزعته الموسوعيّة التعليميّة إلى دلالاته الثقافيّة بمعناها الإيتيقيّ العامّ في كتابات ابن المقفّع كـ «الأدب الصغير» و«الأدب الكبير»[9].
إنّ الموسوعيّة التي تنتظم داخلها العلومُ بأنواعها ليستْ إلّا انعكاساً لنظريّة المعرفة ومناهج تلقّيها في الحضارات القديمة، وما كانت علامةَ عجْز عن الضبط والتقييد. والناظر في الاشتراطات التي كانت تُؤطّرُ نشاط العلماء في الحضارة الإسلاميّة لا يُمْكِنُ إلّا أنْ يجعلها توكيداً لالتقاء الاختصاصات في العقل الواحد (وهو في النهاية عقل الحضارة). ولابن خلدون تعريف بالأدب طريف: «هذا العلم لا موضوع له»[10]. ومَأْتَى الطرافة أنّ من شروط العلم أنْ يكون له موضوع يختصّ به. فكيف يَكون الأدب علماً، وشرطُ العلميّة منتَقِضٌ؟ لا شكّ في أنّ ابن خلدون يستحضر في هذا التعريف البعدَ الموسوعيّ واجتماعَ الاختصاصات فيه اجتماعاً يَمْنَعُ صَكَّ تعريفٍ اصطلاحيّ كتلك التعريفات التي تُحَدُّ بها العلوم مستقلّا بعضها عن بعض. وهذا تقريبا ما كان المسدّي يشير إليه منتقداً. ورغم ذلك، حاول ابن خلدون أنْ يستجمع ما به يكون الأدب علماً: «الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كلّ علم بطرف»[11]. فهل من شَطَطٍ في الاستنتاج لو قلنا إنّ علم الأدب بهذا التعريف هو علم العلوم أو روحها وخلاصتُها؟ وهو ما يُفيد أنّ ابن خلدون واع بالاختصاصات وحقولها، ولكنّه كأنّه غير مطمئنّ إلى فاعليّة كلّ واحد منها منفرداً في بناء شخصيّة العالِم[12].
لا تعني النزعة الموسوعيّة مجرّد الاتّساع المادّي في الكتابة في أكثر من علم، فالغالب على الظنّ أنّها لا تأتي بالتداعي غير السببيّ المراد منه إبراز قدرة الكاتب على أنْ يُمسِك من كلّ شيء بطرف. ولنا في ممارسة العلوم الشرعيّة مثلاً دليلٌ على أنّ العلوم يحتاج بعضها إلى بعض حتّى تنهض بالمحمول عليها من الوظائف؛ فالقاعدة الفقهيّة الشهيرة «ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب» تَصْلُح في هذا الباب لبيان أمر مهمّ، وهو أنّ علوم الشرع إنْ كان النفاذ إليها لا يتيسّرُ إلّا بغيرها من العلوم صار تحصيل تلك العلوم واجباً. وقد تكون هذه القاعدة وراء الاتّجاه التي يُدافع عن فكرة تبعيّة علوم الدنيا لعلوم الشرع تبعيّة أصليّة؛ فقد نزع بعض الباحثين نحو اعتبار العلوم الشرعيّة في الإسلام هي التي فرضت ظهور جميع أنواع العلوم، وقَضَتْ بنشوء علاقات بينيّة بينهما، وذهبوا إلى أنّ مفهوم العلم في الإسلام ليس نفسه في الغرب. فالمسلمون لم يشعروا «قطّ أنّ الدنيا تنفصل في إحساسهم عن الآخرة أو أنّ الدين ينفصل عن الحياة، فانطوى علمهم على جانبيْ الدنيويّة والأزليّة في آن واحد، واستهدف خدمة الحياة الإنسانيّة في هذا العالَم الأرضيّ، في إطار تركّز أصوله على النظر إلى عالم السماء والأرض، واستخلاص العبرة من نظامه المحكم وقوانينه الأزليّة»[13]. وبسبب هذا التلازم بين الدينيّ والدنيويّ، كانت «جميع العلوم ذات صلة وثيقة بعلوم الشريعة؛ ذلك أنّ الباعث الدينيّ لدى المسلمين هو الذي فتح أبواب العلم للعالَم أجمع»[14].
لا ريب في أنّ تصنيف العلوم في الثقافة الإسلاميّة الكلاسيكيّة[15] إلى علوم مَقاصد وعلوم آلة، لئنْ أعطى الأفضليّة للصنف الأوّل، فإنّه جعل الصنف الثاني ممّا لا غنى عنه للاشتغال بالصنف الأوّل؛ فعلومٌ مثل علم اللّغة وعلم أصول الفقه وعلم التفسير وعلم مصطلح الحديث إنْ لمْ يتمكّن منها المتخصّص في علوم المقاصد (العقيدة، الفقه، التفسير…) وقف عاجزاً على أبواب تخصّصه. فعلوم الآلة، رغم أنّها علوم مساعدة أو علوم وسيطة، لا تختلف في درجة الوجوبيّة عن العلوم الأصليّة، فهي التي لا يتمّ الواجب إلّا بها، وهي لذلك واجبة التحصيل. وهذا نوع من البينيّة التي فرضها العقل الإسلاميّ، رغم التصنيف الإيتيقيّ الذي أقام عليه الفروقَ بين العلوم، ولكنّها بينيّة محدودة التأثير نظراً إلى نوع التدخّل الذي يُطْلبُ من علوم الآلة أنْ تقوم به لصالح علوم الشرع؛ فالمغزى منها أنْ تساعد على الفهم. إنّها بمثابة المفاتيح التي تُيَسِّرُ الدخول إلى جوهر المقاصد. وتكشف الأسماء التي تسمّتْ بها عن دورها الوظيفيّ المحدود: علوم مساعدة، علوم ساندة، علوم وسائل، علوم آلة. ولذلك وجب ألّا يُنظَرَ إلى البينيّة في تراث نظريّة المعرفة الإسلاميّة إلّا في السياق الذي وُلِدَت داخله.
ومن المهمّ الإشارة في هذا الصدد، إلى أنّ المسلمين توسّعوا توسّعاً محموداً في استصحاب علوم الغَيْر تيسيراً لفهم القرآن؛ فقد روى فخرالدين الرازي (544- 604هــ) قصّة بليغة يَحسُن الاستشهاد بها، جاء فيها أنّه: «رُوِيَ أنّ عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي (لبطليموس) على عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرؤونه؟ فقال: أفسّر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها} [ق: 6]، فأنا أفسّر كيفيّة بنيانها. ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإنّ كلّ من كان أكثر توغّلاً في بحار مخلوقات الله كان أكثر علماً بجلال الله»[16].
والحقيقة أنّ من يتصفّح تاريخ الكتابة في المعرفة الدينيّة عامّةً ينتبه إلى أنّ العناية بها تصوّراً وممارسة ومتابعة كانت شاغلاً أصليّاً من شواغل الكتّاب المسلمين[17]، كما ينتبه إلى أنّ التعليم مسائلَ ووسائلَ كان يَحظى باهتمام خاصّ من لدن القائمين عليه[18]. وكثيراً ما كانت المؤلّفات تُفرِدُ مساحات تُحذّر فيها من عواقب التفريط في جودة التعليم وتركه بين أيدٍ غير أيدي أصحاب الدراية. كانت أحوال العلم والتعليم والمعلّمين محراراً تقاسُ به أحوال المجتمع وتمدّنه.
وقد يكون مفيداً الإشارةُ في هذا السياق إلى أنّه لئن كان التفقّه في الدين المَطْلَبَ الذي لا يتقدّم عليه في الفضْل مطلبٌ آخر، فإنّ تاريخ المعرفة الإسلامي بيّن أنّ المعارف تتجاور وتتقاطع، وأنّ العالِمَ يَبُثُّها جميعاً في المتلقّي دون حرج. فقد رُويَ على سبيل المثال أنّ عبدالله بن عبّاس (03 ق. هــــ- 68هــــ) المعروف بحَبْر الأمّة والمشهور بحديث الرسول فيه: «اللّهمّ علّمْه التأويل وفقّهْهُ في الدين» كان مجلسُه «خير مجلس للحلال والحرام وتفسير القرآن والعربيّة والطعام»[19]. ورَوى مِثْلَ هذا ابنُ عتبة مؤكّداً هذه النزعة الموسوعيّة، فقال: «كنّا نحضر ابن عبّاس فيحدّثنا العشيّة كلّها في المغازي والعشيّة كلّها في النسب والعشيّة كلّها في الشعر»[20]؛ فما كان اجتماع المعارف المتعدّدة في الرجل الواحد إلّا علامة تميّز ونبوغ، وما كان التقاء الفقه بالشعر مثلا أو باللّغة أو بغيرهما من فنون القول والتحصيل مَصدر استهجان أو استغراب. فكثير من أعلام المسلمين حازوا علوماً شتّى. فانظُرْ في سيرة فخر الدين الرازي (544- 606هـ) مثلا تجدْ أنّه كان فقيهاً وأصوليّاً ومتكلّماً وفيلسوفاً وأديباً وصاحب دراية بالفلك والرياضيّات والطبّ، وقلّبْ حياة ابن خلدون (732- 808هـ) تظفَرْ بمعارفَ شتّى في الدين والأدب والاجتماع والقضاء والحرب… وتأمّلْ سيرة الشريف الجرجاني (740- 816هـ) تَر أنّه كان فقيهاً وفيلسوفاً وأديباً وموسيقيّاً وفلكيّاً[21].
وما استخلصه ناصر الدين سعيدوني من مراقبته كيفيّة انبناء العقل الإسلاميّ وطريقة إنتاجه المعرفةَ يقدّم فكرةً مكتنزة عن نظريّة المعرفة الإسلاميّة عموماً، وعن علاقة العلوم بعضها ببعض في المجال الحضاريّ الإسلاميّ قديماً على وجه الخصوص: «قلّما نجد عالِماً مسلماً اكتفى بصنف واحد من العلوم أو بنوع واحد من المعارف، فالطبّ والجراحة والاستشفاء مرتبط بالفقه والفلسفة والرياضيّات، والفلك والعلوم الدينيّة تتداخل مع الجبر وعلم البصريّات والكيمياء والعلوم الطبيعيّة، كما أنّ مسائل الفلاحة ومعارف الجغرافية والمسالك تتداخل هي الأخرى مع معارف التاريخ والأدب والفنون»[22].
وَمِثْلُ هذه الملامح الخاصّة بالمعرفة تَشكُّلاً وإنتاجاً تؤدّي إلى صياغة تَصوّر جامع لها ينهض على قاعدة صلبة، وهي التكامل والنسقيّة. فهذه المعرفة، بناء على العناصر المساهمة في تَكَوُّنِها، اكتسبت «طابع المعرفة المتكاملة والشاملة التي لا يُمْكن الإحاطة بجوانبها بمعالجة أحد العلوم، وإنّما يقتضي ذلك ثقافةً موسوعيّة تجمع تصوّر العالَم الأخرويّ بمسائل المعيشة وواقع المجتمع»[23]. ومن أفضل ما وقَعْنا عليه في هذا الصدد قولُ الغزالي (450- 505هـ) وهو ينظر في علاقة العلوم بعضها ببعض: «إنّ العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط ببعض»[24]. واستقى الغزالي فكرة التعاون من مقاصد المعرفة في الإسلام؛ فليس ثمّة علم محمود سواء أكان علميّاً شرعيّاً أو علماً دنيويّاً إلّا وهو موضوع لخدمة الغاية التي من أجلها يُنتِجُ المسلم العلوم، وهي التقرّب من الله: «العلوم على درجاتها إمّا سالكة بالعبد إلى الله تعالى، أو مُعِينة على السلوك نوعا من الإعانة»[25]. لا ريبَ في أنّ الغزالي الذي توسّع في دراسة العلم في الإسلام وتوغّل في كثير من التفاصيل المتعلّقة بأصنافه ومراتبه ومناهجه وأدواته ومنازل العلماء وأقدراهم ووظائفهم لم يخالف جمهور علماء المسلمين، غيّر أنّه استطاع أنْ يُقَدّمَ على نحو بارع صورةً بانوراميّة للمعرفة في الإسلام يتأكّد للقارئ من خلالها أنّها معرفة تتساند فيها العلوم وتتعاضد وتتكامل من جهة كونها مَدخلاً لا غنى عنه إلى دراسة العقل الذي أشرف على بناء الحضارة الإسلاميّة، وأنّها معرفة تتّجه بأصحابها مُنتجين ومتلقّين نحو الله.
ومن نافل القول الإشارة إلى أنّ الدراسات المنشغلة بتاريخ العلم أقرّت في ما يُشْبه الإجماع أنّ حضارة الإسلام كانت محطّة أساسيّة من المحطّات التي عرفت فيها العلوم لا فقط نموّاً واتّساعاً، بل كانت كذلك شاهدةً على رحابة العقل الإسلاميّ وتسامحه وإقباله على التفاعل الخلّاق مع معارف الأمم الأخرى. فالمسلمون استطاعوا، بفضل هذه الخصال، أنْ يؤسّسوا ما أسماه بعضُهم بوحدة المعرفة الإنسانيّة، وأن يضعوا القواعد لمفهوم العالميّة في المعرفة. يقول كراوثر (J. G. Crowther) وهو أحد أعلام التأليف في تاريخ العلم، إنّ المسلمين «قرأوا التراث الفكريّ للقدماء بعقول متفتّحة بلا خلفيّات تعوقهم، ولذلك وقفت الثقافات الإغريقيّة واللّاتينيّة والهنديّة والصينيّة جميعها بالنسبة إليهم على قَدَم المساواة. وكان من نتائج هذه العقليّة المتعطّشة للمعرفة عند المسلمين أنّهم أصبحوا بالفعل المؤسّسين الحقيقيّين لمفهوم العالميّة في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانيّة»[26].
يُسنِدُ كراوثر صفةً إضافيّةً للاتّجاه الموسوعيّ الذي رآه يميّز المسلمين، وهم يَبنون مرتكزاتِ عالَميّةِ المعرفة وهي النزعة النقديّة: «برزوا كموسوعيّين نقديّين». وبهذه الصفة، لم يكن المسلمون مجرّد جمّاعين وحافظين (أرشيفيّين/ archivistes) لِما تَناثَر من علوم في تراثات الأمم الأخرى. كانوا في الوقت نفسه يمارسون أنشطة نقديّة على ما يَجمعونه، وقد خوّل لهم هذا النقد أنْ يكونوا حلقة من حلقات إنتاج المعرفة الإنسانيّة وتطويرها. وقد يسمح لنا هذا السلوك بالقول إنّ خصالاً ثلاثاً لا يَجوز بغيابها الكلامُ على دور ما لهذه الحضارة أو تلك في تنمية المعرفة الإنسانيّة، وهي: التسامح وسعة الاطّلاع والفعاليّة النقديّة. ونظنّ أنّه لا جدال في أنّ سلوك المسلمين العلميّ في عصور مجدهم الحضاريّ كان مَطبوعاً إلى حدّ كبير بهذه الخصال.
ولا يُمْكن أنْ تُفهَم حركة الترجمة التي ميّزت هذا السلوك فهماً سليماً إنْ لم توضَع في سياق الوعي بأنّ النهوض الحضاريّ لا يتمّ إلّا باستيعاب المنجزات العلميّة التي أنتجتها الحضارات الأخرى ودَمجها في نسيج المعرفة الإسلاميّة. فالترجمة، بهذا المعنى، مسلك من مسالك تأمين تراث الآخَر العلميّ واعتراف به أوّلاً، وأداة فعّالة لتلاقي العقول وتعاونها ثانياً، وأرضيّة مناسبة للتشبيك؛ وذلك بإحداث خطوط اتّصال مباشرة بين مختلف العلوم والمعارف ثالثاً. وهذا تقريباً ما سَوّغَ لرشدي راشد أحد أبرز مؤرّخي تاريخ العلم عند المسلمين الكلامَ على ما اعتبره عالميّة العلم العربيّ؛ فقد قَدَّرَ أنّ هذا العلم «عالميّ بمصادره ومنابعه، بتطوّراته وامتداداته»[27]، وبيّن في إطار دفاعه عن البعد العالميّ في العلم العربيّ أنّه «على الرغم من أنّ هذه المصادر هي يونانيّة غالباً، إلّا أنّها تحوي كتابات سريانيّة وسنسكريتيّة وفارسيّة»[28]، وأشار إلى أنّ إسهامات الحضارات في نشأة العلم العربيّ لئن كانت غير متعادلة من حيث التأثير، فإنّ «تَعدّديَتها كانت أساسيّة في تَكوُّن العلم العربيّ»[29].
من الملاحظات التي ساقها رشدي راشد وهو يفحص طريقة اجتماع علوم العالَم في حضارة الإسلام ما تعلّقَ بوجود استراتيجيات تنهض على توحيد التقاليد العلميّة المتعدّدة «تحت قبّة الحضارة الإسلاميّة الواسعة»[30]، ورأى أنّ عمليّات التوحيد ما كانت لتَكُونَ لولا ما رُسِمَ من سياسات للنقل والاستيعاب والاحتواء والإضافة: «إنّها النتيجة المعتمدة لحركة ترجمة كثيفة، علميّة وفلسفيّة، قام بها محترفون، في نوع من التنافس أحياناً، مدعومة من السلطة ومدفوعة بالبحث العلميّ نفسه»[31]. وأدّى كلّ ذلك إلى ميلاد معرفة ذات هويّة واضحة المعالَم بعد أنْ كانت تلك العلوم مجرّد منقولات مجتلَبة من تراثات الأمم الأخرى. ونتج عن السياسات المتّبَعة أنّه «بات من الممكن، مع العلم العربيّ، أن نقرأ في لغة واحدة، ترجمات الإنتاج العلميّ القديم والأبحاث الجديدة على السواء. وكانت هذه القراءة تتمّ في سمرقند كما في غرناطة مروراً ببغداد ودمشق والقاهرة وبالرمو»[32]. ومن لطيف إشارات رشدي راشد في هذا السياق أنّه «حتّى عندما كان العالِم يكتب بلغته الأمّ، خاصّة الفارسيّة -مثْل النَّسَويّ أو نصير الدين الطوسي- كان يقوم بنفسه بنقل مؤلَّفه إلى العربيّة»[33]. وبهذا انتقلت عالميّة العلم العربيّ إلى اللّغة الناطق باسمها ابتداء من القرن التاسع الميلاديّ: «ابتداء من القرن التاسع كان للعلم لغة هي العربيّة، حتّى إنّ هذه اللّغة بدورها أخذت بعداً كونيّاً، فلم تعد لغة لشعب بل لعدّة شعوب، ولا لغة لثقافة معيّنة إنّما لغة كلّ المعارف»[34].
كان العقل الإسلاميّ إذن يبني للمعرفة أنساقاً متكاملة، فتتحلّل داخلَها الانتماءات القديمة للعلوم، وتكتسبُ في مواقِعِها الجديدة هُويّة كليّة بسبب اندراجها في نظريّة المعرفة الإسلاميّة عبر آليّة الدمج وإعادة الاستثمار فيها. صحيح أنّ الترجمة كانت البوّابةَ الأولى التي مرّت منها علوم الملل الأخرى إلى ديار الإسلام، ولكنّ الصحيحَ أيضاً أنّ العقل الحارسَ لخصائص حضارة الإسلام المُشْبَعَة بالدين كان يَعْمَلُ بلا كلل وبشجاعة كبرى على أنْ تنتهيَ عمليّات الاستيعاب والإدماج والاحتواء بالصهر والتذويب. وهكذا أمْكَن للمسلمين أنْ يُجْرُوا ما ينتجونه إبداعاً أو ترجمةً باللّسان العربيّ وطبق مقاصد الدين وحاجات الناس. وعلى هذا الأساس، وجبَ النظرُ إلى إسهامات المسلمين لا باعتبارها إضافات لما تحقّق على أيدي الحضارات السابقة لهم، وإنّما باعتبارها إعادة تخليق للتراث العلميّ وفق المعقوليّات التي كانت تتحكّم في تصوّراتهم ومعتقداتهم.
ومنَ الضروريّ في هذا السياق، الانتباهُ إلى مسألة حيويّة وهي أنّ استدراج العلوم إلى الفضاء الحضاريّ الإسلاميّ لم يَكنْ أبداًّ من الأعمال التقنية أو الممارسات الترَفِيَّة. لقد كان حصيلةَ وعيٍ بالمسؤوليّة الحضاريّة التي تُلزِم العلماءَ بأنْ يَبذلوا الجهد حتّى يبلغوا فيه الغاية خدمة للدين والدنيا معا. ولا عجَبَ حينئذ أنْ يجد الدارسُ عناءً شديداً في إقامة فصل حقيقيّ بين العلوم المتمحّضة للدين فقط والعلوم المتمحّضة للدنيا فقط. فالكثيرُ ممّا يتراءى علماً دنيويّاً خالصاً، إنْ دقّقتَ فيه وجدتَه في خدمة الدين، بل لولا المقصد الدينيّ منه ما كان ليكون له شأن وقيمة؛ فَمِنْ ذلك على سبيل المثال علم الفلك أو الهيئة. إنّ «تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينيّة، تدفع الإسلاميّين إلى الاهتمام المكثّف بالفَلَك، خصوصاً أنّ البيئة الصحراويّة دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمريّ بصعوباته في تحديد التواريخ سلفاً، وفي الوقت نفسه اهتمّوا بالتقويم الشمسيّ في الأمصار الزراعيّة التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقاً لمواسم الحصاد»[35]. والعكس صحيح أيضاً، فكثير من علوم الدين تكتسبُ جانباً من شرعيّتها من انبثاقها عن شواغل دنيويّة في إطار التوجيه والصقل والتهذيب والأخلقة، فاُنظُر مثلاً إلى شعيرة الصلاة كيف ترتبط ارتباطَ انعكاسٍ شرطيّ بالسلوك الاجتماعيّ من خلال الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العَنكبوت: 45]، ومن خلال الحديث النبويّ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إلَّا بُعْداً»[36].
ونميل إلى القول إنّ كلّ المصنّفات الكلاسيكيّة الذي تخصّصتْ في التصنيف والتبويب لم تنجح إلّا نجاحاً محدوداً في الإقناع بأنّه ثمّة علوم خالصة للدنيا وأخرى خالصة للدين. ونحن في هذا الرأي نلتقي مع مَن ذهب إلى أنّ «مبحث تصنيف العلوم هو مبحث منهجيّ رسّخ من خلاله فلاسفة العلم ترابط العلوم وتماسكها، حتّى إنّ بعض الباحثين يرى أنّ وجود المعرفة مرتبط بترابط عناصرها وتخصّصاتها»[37]. وقد مرّ علينا من الأمثلة ما يُفيد بأنّ كبار علماء الإسلام كانت تلتقي فيهم علوم الدين والدنيا معاً. ولعلّ المستغْرَبَ فعلا هو أنّه قد حدثَ في تاريخ حضارة الإسلام ما أبْطَلَ هذا التساكنَ الخلّاقَ بينهما وما عطّلَ استمراريّة اندغام المعارف الدينيّة والدنيويّة بعضها في بعض. وهل مِنْ تثريب علينا لو قلنا إنّ اللّحظة التي انفصلت فيها هذه العلوم بعضها عن بعض هي تماماً اللّحظة التي شَرَعتْ فيها حضارة الإسلام في تسليم قيادة العقل لغيرها والدخول في زمن الانحدار والسقوط.
ولأجل ذلك يتأكّد القول إنّ مثل هذه الخصائص التي يتحايث بها تاريخاً العلم والحضارة تشرع في الاندراس حين تُصاب الحضارة بالإنهاك، فتَفْقد القدرةَ على الاستمرار في تزويد الناس بما يحتاجون إليه. ولا جدال في أنّ العاملَ المباشِر لإخراج الحضارة من دورة الإنتاج الماديّ والقيميّ هو توقّف «عقلها العالِم» عن الإبداع وركونُه إلى التقليد. وقد تُلخِّص العبارةُ الشهيرة «غلق باب الاجتهاد» أزمةَ الفكر الإسلاميّ التي امتدّت زمناً طويلاً. وإنْ أخذْنا بهذا التفسير للتخلّف الحضاريّ، فلا عَجَبَ مِنْ أنْ يكون تَأخُّر دخول كثير من الأسئلة البحثيّة تحت دائرة الضوء أمراً معقولاً. ومن تلك الأسئلة ما تَعَلّقَ بتأخّر الاشتغال بمسألة التقاطع بين العلوم في المؤسّسات البحثيّة العربيّة.
وينبغي تسجيل ملاحظة في هذا الصدد مفادها أنّ دخولَ الحضارة الإسلاميّة الزمنَ الحديث، وهي منسحبة من مواقع الريادة والإبداع قد رافقه ازديادُ الطلب على الدين. ولئن كانَ الطلب المتزايد على الدين مبَرَّراً نفسيّاً وثقافيّاً في الأزمات المجتمعيّة الخانقة وفي سياق التحوّلات الداخليّة والخارجيّة الكبرى[38]، فإنّ المفارقَة تكمن في عدم التناسب بين الطلب المتزايد من جهة، وعجز العقل الديني عن الاستجابة من جهة ثانية، وهو ما يَفرض ميلاد وعي غير تقليديّ لتجاوز ما تطرحه هذه المفارقة من تحدّيات.
الغالب على الظنّ أنّ الأسئلة المشار إليها لم تعرف طريقها الفعليَّ إلى حقول المعرفة ومناهجها عند العرب والمسلمين المعاصرين قبل سبعينيات القرن العشرين. ومن الموضوعيّة أنْ نقولَ إنّ هذا التقدير الزمنيّ الذي استخلصناه ممّا تجمّع لدينا من معطيات لا ينفي وجودَ باحثين تفطّنوا قبل ذلك لأهميّة طرح العلاقة بين العلوم الدينيّة وعلوم الإنسان والاجتماع للبحث نظراً إلى أنّ حياة المسلمين في التاريخ الحديث عرفت بعض التحوّلات التي فرضت إعادة النظر في الوظائف التي كان الفقه ينهض بها في السابق، نقصد على سبيل المثال بروز جماعة من المجدّدين الأتراك في الربع الأوّل من القرن العشرين عملوا على تطوير الدراسات الإسلاميّة وربطها بقضايا الناس. وتُعَدُّ «المجلّة الإسلاميّة» Yslâm Mecmuas التي أسّسوها واستمرّت في الصدور من 1914 إلى 1918 بأعدادها الثلاثة والستّين التجربةَ الأكثر انخراطاً في مغامرة بناء الجسور بين العلوم الدينيّة والعلوم الاجتماعيّة[39].
لا جدال في أنّ نصيباً من هذه الجهود جاء على سبيل التعريب والمحاكاة، ولكنّ الثابتَ أيضاً أنّه نشأَ، في مرحلة لاحقة، وعيٌ بأهميّة التشبيك المعرفيّ، والحاجة الفعليّة إليه، والتفكير الجدّي في صرف العناية له باعتباره مُرْتَكَزاً أساسيّاً لتطوير أداء النشاط المعرفيّ. ومن الأمثلة التي نَسُوقها في هذا السياق أنّ عدداً من المراكز البحثيّة في بعض البلدان العربيّة اكتسبت شرعيّة وجودها من انخراطها في مغامرة التشبيك بين هذيْن الحقليْن المعرفيّيْن؛ فمِنْ ذلك «مؤسّسة نماء للبحوث الدراسات» التي تأسّست ببيروت في 2010، ووضع القائمون عليها اهتماماتهم البحثيّة في مدار الدراسات البيْنيّة: «تتمركز اهتمامات نماء حول المجالات البحثيّة التي تساهم في تطوير البحث في حقول الإسلاميّات والإنسانيّات وتعزيز التكامل بينهما، وتطوير الممارسات التحليليّة والنقديّة وتعميق الدراسات البينيّة»[40]. ومن الوسائل التي وفّرتْها هذه المؤسّسةُ للباحثين الراغبين في تطوير هذا الأفق العلميّ دوريّةٌ بعنوان «نماء» التي ظهرَ عددها الأوّل في 2016، وبلغ مجموعُ ما ظهر إلى حدّ الآن سبعة عشر (17) عدداً.
ويهمّنا أن نسجّل ملاحظة ههنا، وهي أنّ العنوان الرئيس لهذه المجلّة أُلْحِقَ بعنوان فرعيّ يضبط هُويّتها العلميّة: «دوريّة فصليّة متخصّصة في علوم الوحي والدراسات الإنسانيّة»، وهو ما يعني أنّ الهدفَ الأساس من بعْثها هو مدّ الجسور بين المجاليْن الدينيّ والإنسانيّ. ولا مِراء في أنّ هذا المقصدَ أملاه وعيُ الساهرين عليها بأنّ المسلمين في حاجة إلى تطوير معرفتهم الدينيّة المتوارثَة عن طريق الإفادة من مكتسبات العلوم الإنسانيّة التي مازال يُنْظَرُ إليها، باعتبارها علوماً دنيويّة علمانيّة. وهذا تقريباً ما جاء في افتتاحيّة العدد الأوّل التي دبّجها رئيس التحرير عبد الرزّاق بلعقروز؛ فقد أقامَ معقوليّة وجود هذه المجلّة على مسألتيْن: نقدٍ لواقع العلاقة بين الحقليْن المراد تركيز الاهتمام عليهما من جهة، وتحديدِ الرهان الذي يُرام كسْبُه من جهة ثانية. فأمّا الواقع، فعبّرَ عنه بلعقروز على النحو التالي: «إنّ مجلّة نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانيّة تدرك واقع الانفصال الحاصل بين علوم الشريعة وعلوم الإنسان، وتدرك أنّ هذا الانفصال هو نتاج ظروف معرفيّة وليس من صميم المعرفة الإنسانيّة»[41]. وعبّر عن الرهان من بعث المجلّة كما يلي: «إنّ الرؤية المعرفيّة التي تتبنّاها مجلّة نماء تتأسّس على هذا الوصل بين علوم الوحي، وبين منجزات المعارف الإنسانيّة؛ كي يحصل الإدراك السليم للواقع، وكي تتمّ الاستفادة من إنجازات العلوم، وإسكانها في نسق الوحي الإسلاميّ من أجل تحقيق التركيبة الخلّاقة المبدعة التي تُكامِل بين علوم الوحي وعلوم الإنسان»[42].
ونودّ في السياق نفسه، أنْ نَسُوقَ مثالاً آخَر عن الوعي بأهميّة ممارسة البحث العلميّ تحتَ مظلّة التشبيك؛ فقد شهدت خارطة المؤسّسات الأكاديميّة العربيّة تأسيس مركز بحثيّ تحت مسمّى «مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة» في نسيج الأجسام العلميّة بجامعة قطر سنة 2018، وهو مركز أكاديميّ متخصّص في الدراسات البينيّة كما يظهر بوضوح من النصّ التعريفيّ الرسميّ الخاصّ به الذي جاء فيه أنّه «كيان بحثيّ… مَعْنيّ بتطوير العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والتجسير فيما بينهما»[43]. ومِنْ بين ما اقترَحَه للمساهمة به في هذا المشروع إصدارُ مجلّة علميّة متخصّصة أطلقها تحت عنوان مُشْبَع بالدلالة على البيْنيّة، وهو «تجسير». وقد وقع تحديد رؤيتها على النحو التالي: «أن تكون مجلّةُ تجسير رائدةَ الأبحاث البينيّة في مجالات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ»[44]. ومن البحوث المهمّة التي بادرت المجلّة بنشرها في عددها الأوّل حول البينيّة، بحثُ مشاري حمد الرويح: «التجسير المعرفيّ: الرؤية، المنطلقات والمسارات»[45].
نعتقد، في ضوء ما تقدّم، أنّ سؤال البيْنيّة لئن كان سؤالاً مشروعاً في مطلق الأحوال داخل منظومات إنتاج المعرفة عربيّاً وإسلاميّاً، فإنّ معقوليتَه تُضْحي أوكدَ حين نفكّر في ما عليه الأمر بالنسبة إلى العلوم الدينيّة من ناحية، والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة من ناحية ثانية؛ فقد كان بينهما «برزخ»، فـ«لا يبغيان». ونستخدم عبارة البرزخ عمداً لنشير من خلالها إلى حقيقة ثقافيّة وأكاديميّة قائمة الذات عند طيف واسع من الباحثين مفادها أنّ للعلوم الدينيّة مجالَها الخاصّ الذي تنفصل به انفصالاً كاملاً عن المجال الذي تَنْشُط فيه علوم الإنسان والمجتمع. ويَسْهُلُ الوقوعُ على شواهد كثيرة تؤيّدُ هذه الحقيقة. منها، على سبيل المثال، ما يُلمسُ بجلاء في انفصال المؤسّسات الجامعيّة المتخصّصة في علوم الدين عن المؤسّسات الجامعيّة الأخرى، وهو ما حفّز المهتمّين بها على الكتابة فيها بحثاً عن مَخارج مِن أزماتها وبَسْطاً للسبل أمامها عساها تساهم في تطوير منظومات إنتاج المعرفة[46].
استطْرَفْنا في هذا السياق مثالاً يعبّر تعبيراً مكتنزاً عن هذا الانفصال التقَطه ساري حنفي من أحد أساتذة علماء الاجتماع في جامعة مغربيّة جاء فيه: «السوسيولوجيا لا ترى الفقر بأنّه قَدَرُ الربّ كما تتصوّره الأديان؛ فهي ترى أنّ الفقر نابع من سوء توزيع الثروة، إنّه خطيئة بشريّة بالدرجة الأولى. إنْ كنتَ طالباً أو أستاذاً تؤْمن بأنّ الفقر من أقدار الله، أنصحك أن تغيّر الشعبة وتذهب إلى شعبة الدراسات الإسلاميّة»[47]. فهذا القول، بقطع النظر عن شحنة الاستهزاء والتعالي التي فيه، يُظْهِرُ أنّ التباعد بين مدار العلوم الدينيّة ومدار العلوم الاجتماعيّة تباعد بنيويّ حادّ يرتكز على وجود نظاميْن للمعرفة متنافريْن أحدهما وضعانيّ قابل للتفسير، والآخر غيبيّ قابل للتبرير. وفي السياق نفسه، ولكنْ من الجهة المقابلة، بالإمكان أنْ نقرأ لرجل دين كلاماً في التقليل من قيمة ما عند علماء الإنسان والاجتماع، وتعظيم ما عند علماء الشريعة؛ يقول أحمد الحربيّ مدافعاً عن مبدإ انفصال العلوم الشرعيّة عن العلوم الإنسانيّة: «العلوم الشرعيّة تختلف عن العلوم الإنسانيّة من حيث المواضيع التي تدرسها، ومن حيث منهج البحث، ومن حيث دقّة النتائج التي يتمّ التوصّل إليها، ولهذا فالعلوم الشرعيّة مجموعة متميّزة عن غيرها من العلوم، لها مواضيعها، ومنهج البحث فيها يختلف عن غيرها، ولا يصحّ إضافتها إلى أيّة مجموعة من العلوم»[48]. وعلى هذا الأساس، يبدو التساؤل عن إمكانيّة فتح المَعابِر بينهما نوعاً من المغامرة في اللّامعقول. ولكنْ، من المهمّ أنْ نطرح هذا السؤال المنهجيّ أوّلاً: هل هما متباعدان تباعداً وجوديّاً حقّا؟ أم إنّ الأمر لا يعدو أنْ يكون تباعداً أملتْه سياقات تاريخيّة وثقافيّة بالإمكان اليومَ مقاومتُها وتفتيتُها؟ لا يخالطنا شكٌّ في أنّ هذا التباعد تَشَكَّلَ في التاريخ وليس قَبْلَه. وكان أحمد حماني (1915- 1998) قد عبّر منذ أربعينيات القرن العشرين تعبيراً جيّداً عن تاريخيّة هذا التباعد بالقول: «إنّ أطوار الانحطاط التي أصابت المسلمين أخذت تنقص من حساب العالِم فَنّا ففنّا، حتّى صار لا يُتقِن غير فنّيْ العربيّة والفقه، ثمّ اقتصروا على أحدهما، ثمّ ضاقت الحلقة حتّى صار العالِم ينحصر علمُه في دراسة كتاب واحد -وليس كتاب الله- بل العلم كلّ العلم ينحصر عنده بين: باب رفع الحدث، وحكم الخبث»[49]. وأضاف بعد ملاحظاته النقديّة لتاريخ تقهقر مفهوم العلم أنّ الضرورة الحضاريّة اليوم تُوجب إعادة بناء مفهوم العالِم: «العالِم المنتظَر يجب أن يتسلّح بكلّ ما تسلّح به ابنُ الكليّات المتخرّج من باريس أو لندن أو نيويورك مِنْ علوم الحياة، وأنْ يفوقهم بما له من قوّة روحيّة عظيمة أورثَتْه إيّاها دراسة روح الإسلام وتعاليمه السامية»[50]. وعبارة «سوسيولوجيا القطيعة»[51] التي استخدمها ساري حنفي لوصف نوع التباعد دقيقة، ولا مزيدَ عليها. ولذلك، نعتقد بأنّ مَطلَبَ البينيّة ينبغي أنْ يُوضَع اليوم على رأس أولويّات المغامَرة الأكاديميّة والحضاريّة.
الحقيقة أنّ شيئاً من الاهتمام بهذه المسألة الحيويّة بدأ منذ مدّة يُشاهَد في بعض الأنشطة والمشاريع والتآليف البحثيّة العربيّة[52]. فلمْ يعد مُستغْرَباً إذن أنْ يُصادفنا مِثْلُ هذا السؤال: «كيف يُمْكن التفكير في سؤال العلاقة بين العلوم الشرعيّة الإسلاميّة والعلوم الاجتماعيّة؟»[53]. وتتأتّى معقوليّة هذا النوع من الأسئلة من جهتيْن متلازمتيْن على الأقلّ: فأمّا الأولى، فالوعي بأنّ عمليّات التشبيك الكبرى بين المعارِف علوماً ومناهج لم تَعُد اليوم تَرَفاً، بل ضرورة لا غنى عنها للفهم والاكتشاف وفكّ أسرار الكون وغموضه. وأمّا الثانية، فالاعتقاد بأنّ التشبيك ليس عملا تقنيّا وأكاديميّاً منعزلاً عن واقع المجتمعات، ولذلك وجبَ توجيه مستخلصاته لتحسين منزلة الإنسان وتجويد أحوال معاشه الماديّة والنفسيّة، وأنّه ما تأخّرتْ أمّةٌ في كسْب هذا الرهان إلّا حكمت على نفسها بالخسران.
وما يجعل سؤال البيْنيّة في المجال الحضاريّ الإسلاميّ اليوم سؤالاً شديد الحساسيّة والتعقيد هو أنّ المسلمين يَحيوْن في الوقت نفسه أزمتيْن: أزمة استنبات العلوم الوافدة، وأزمة تحيين العلوم الأصيلة. وسؤال التحيين سؤال مركزيّ يطرحه على نفسه العقل الفقهيّ والعقل الوضعانيّ على حدّ سواء، وهو علامة صحيّة ومؤشّر على أنّ المسلمين في حاجة إلى معرفةٍ تُناسب زمانهم. ولا يَخفى أنّ الحقل الدينيّ يواجه تحدّيات كبرى لإثبات جدارته بالبقاء حيّا وفاعلاً[54].
لا ريبَ في أنّ حضور هذيْن الصنفيْن من العلوم حضوراً متزامناً في المجال الحضاريّ الإسلاميّ من دون تمهيد السبل الضروريّة أمامه لن يكون إلّا حضوراً إشكاليّاً؛ فعلوم الشرع كانت تاريخيّاً العلومَ التي تبني للمسلم فرداً وجماعةً معقوليّة وجوده وتمدّه بما يحتاج إليه من أجوبة، وليست العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة إلّا مصدراً آخَر ينهض بكلّ الأدوار التي تنهض بها العلوم الدينيّة، ولكنْ في بيئات حضاريّة مُعَلْمَنة. ويبدو أنّه بانعدام خططٍ مُعَدّةٍ سلفا وعن وعيٍ بأهميّة الاستجلاب والتحيين تُؤَمِّنُ عمليّةَ اللّقاء بينهما، خَيَّرَ كلّ واحد أنْ يُعالجَ أزمتَه داخل مجاله الخاصّ به وسط إهمال غريب لمعطًى إشكاليّ، وهو أنّهما يتنافسان على الموضوع نفسه: المسلم المعاصر. وكان مبدأ التأصيل هو الإستراتيجيا الوحيدة تقريباً التي مارسَت بها العلومُ الشرعيّة أزمة التحيين، ومارست بها العلومُ الاجتماعيّة والإنسانيّة أزمة الاستنبات[55]. وهي، في ما نرى، استراتيجيا محدودة الفاعليّة والمردود؛ لأنّ المَطلَب الحقيقيّ لا يُلْتَمَس في الإجابة عن هذا السؤال: كيف نبني فقها معاصراً؟ ولا أيضاً في الإجابة عن هذا السؤال: كيف نبني علم اجتماع إسلاميّ؟
نحن في حاجة إلى الاشتغال بسؤال ذي طبيعة أخرى، وهو سؤال من طبقتيْن: كيف نحرّر المجال الحضاريّ الإسلاميّ المعاصر من معارك النفوذ عليه بين العلوم الشرعيّة والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة؟ وهذا السؤال يستعصي على الإجابة دون توفير إجابة للسؤال الوظيفي التالي: كيف نبني مجال الفقيه- المفكّر بدل الفقيه- المفتي؟، وهذا السؤال ينقلنا مباشرة إلى التفكير تحت سقف البينيّة.
وقد يَكُون من اللّازم أثناء معالجة هذا النوع من الأسئلة ضرورةُ العمل على إثبات وجاهة اعتماد المناهج التي ابتكرها الغربيّون في مقاربة تاريخهم وتراثهم ومعتقداتهم لمقاربة تاريخ المسلمين وتراثهم والدين الذي به يَدينُون. والغَرضُ من هذا غَرَضان: علميّ وثقافيّ؛ فأمّا العلميّ، فيتعلّق ببيان أنّ المعارف والمناهج في الحقليْن الإنسانيّ والاجتماعيّ لم تنشأ في البيئات التي وُلِدتْ فيها لحاجات اقتضتْها تلك البيئات حصراً، وهي بالتالي لا تتمتّع بخصائص تعود مِلْكيّتُها للأسئلة والسياقات التي نشأت بسببها وداخلها. ومِنْ شأن توفير الردود العلميّة على ما يُطْرَح حول هُويّة المناهج ومنابِتِها وخصائصها الثقافيّة أنْ نتجاوز عن اقتناع ما تروّجه المعارضات التي تقف في وجه هذا التمشّي كأنْ تقول على سبيل المثال إنّ «الوعي الحداثيّ لم يقرأ التراث من داخل نسقه ومضمونه، وإنّما نظر إليه من الخارج وأسقط عليه تصوّرات غربيّة وغريبة بعيدة عنه». وأمّا الغرض الثقافيّ، فيتعلّق بتهيئة الوجدان الإسلاميّ العُموميّ لتَقبّلِ مُخرجات تطبيق المناهج الجديدة على المخزون التراثي الذي مازالت قطاعات واسعة من الناس لا ترى وجودها إلّا فيه وبه.
والحقيقة أنّ هذا النوع من الاعتراضات يبيّن جحم الصعوبات التي يصطدم بها مشروع البَيْنَنَة، فالإشكال لا ينحصر فقط في كيفيّة استرجاع العمل بمبادئ «العقل الكليّ» الإسلاميّ الذي تتساكن فيه العلوم وتتشابك وتتعاون، بل أيضا في إثبات أنّ هذه الكليّة مثلما تحقّقت بين عقول الحضارة الإسلاميّة بالإمكان أنْ تتحقّق بين عقول الحضارات الإنسانيّة؛ فالتكامل مثلما يكون بين العلوم داخل الحضارة الواحدة، يكون أيضاً بين العلوم التي أبدعتْها الحضارات على اختلافها وتنوّعها.
ويُفتَرَضُ أنْ يؤدّيَ الوعيُ بأهميّة التقاطع بين الحقليْن الشرعيّ والإنسانيّ إلى بناء قواعد جديدة لنظريّةٍ في المعرفة تنهض على التواصل بين عناصرها وليس على القطيعة، لكنّ اللّافتَ تاريخيّاً أنّ اللّقاء بينهما في السياق العربيّ والإسلاميّ المعاصر لم يَكُن لقاءَ اعتراف متبادَل، وإنّما كان لقاءً موسوماً بالريبة والتحفّظ حيناً، وبالرغبة في إزاحة أحد الحقليْن للآخر أو ابتلاعه أو إلحاقه به حيناً آخَر، وهو ما يُحَتِّمُ، لكسْب مشروع التشبيك، القضاءَ على ما أسماه عزالدين عناية «التوجّس من مناهج العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة التي كانت تُصَنَّفُ في عداد المسارب المؤدّية للنظريّات الهدّامة»[56].
ونسْتقدمُ في ما يلي نماذجَ من بعض التجارب التي تؤكّد أنّ التنازع من أجل الهيمنة والسطو أو التساكن السلبيّ كان السمةَ الأبرز للعلاقة بين الحقل الدينيّ من جهة والحقل الإنسانيّ والاجتماعيّ من جهة أخرى. والغرضُ من مَجيئنا بها هو أنْ نقف على حجم العوائق المنتصبة في وجْه مشاريع التشبيك، وأنْ نبحث عن الإمكانات المتاحة للتخفيف من آثارها المدمِّرة. وتتوزّعُ هذه النماذج على أصناف خمسة من العوائق: عائق ثقافيّ يتعلّق بهويّة علم الاجتماع الغربيّة، وعائق منهجيّ يتعلّق بكيفيّة مقاربة التشبيك، وعائق سياسيّ يتعلّق بتدخّل أنظمة الحكم في الأكاديميا العربيّة والإسلاميّة، وعائق إبستيميّ يتعلّق بكيفيّة تَمثُّلِ البينيّة وتنفيذها، وعائق نفسيّ- معرفيّ يتعلّق بالتوجّس من إمكانيّة إفساد العلوم الاجتماعيّة نظامَ العلوم الشرعيّة وهُويّتَها المعرفيّة.
نستَحْضِر في المثال الأوّل التجربةَ العثمانيّة- التركيّة بكلّ ما فيها من شراسة وعدوانيّة. وعبارة «المواجهة المثيرة للاهتمام» التي وصف بها أستاذ علم الاجتماع التركي رجب شنتورك العلاقة بين العلوم الاجتماعيّة والفقه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأوّل من القرن العشرين تكشف عن حدّة التوتّر بينهما. والتفسير الذي قدّمه لِفهْمَ ما حدَثَ، بقطع النظر عن مدى صلابته وشموليّته، يستحقّ أنْ نحيل عليه؛ لأنّه يتضمّن المشكل وحلّه في الوقت نفسه. ذهبَ شنتورك إلى أنّ علم الاجتماع علم غربيّ وافد استطاع أنْ يمارِسَ سلطتَه في سياق ما سمّاه «تغريب الثقافة الفكريّة الإسلاميّة»، واختزل هذا اللّقاءَ العدوانيّ وصيرورتَه كما يلي: «تحدّى علم الاجتماع الغربيّ المجال الذي احتلّه الفقه تقليديّاً، بينما حاول البيروقراطيّون والضبّاط والأطبّاء والمهندسون والأساتذة أن يحلّوا محلّ الفقهاء باسم العلوم الجديدة. وحاول بعض المفكّرين التوليف بين الفقه وعلم الاجتماع الغربيّ باتّخاذهم موقفاً معتدلاً»[57]. وإزاء هذا التمدّد الذي حقّق به علمُ الاجتماع زحفاً متسارعاً على مَواقِع علوم الشرع، لم يكنْ أمام الفقه إلّا البحث عن سبيل للنجاة بَدَلَ الاضمحلال في معركة غير متكافئة خاصّةً بعد أنْ تدخّلت الدولة التركيّة الحديثة بقوّة القانون فـ«حظرت… الفقه، وتبنّت الخطاب العلميّ الغربيّ مذهبا رسميّا لها ولمدارسها ولجامعاتها»[58].
ونستقدم في المثال الثاني تجربةً في التشبيك يَروي قِصَّتَها المرحوم محمّد الطالبي (1921- 2017) الذي كلّفتْه وزارة التعليم العالي التونسيّة هو والأستاذ عبد المجيد الشرفيّ في تسعينيات القرن العشرين بالإشراف «على إعداد كُتُب جامعيّة لتحديث وتعصير التعليم بجامعة الزيتونة اللّاهوتيّة»[59]. ولم يتوانَ الطالبي في الكشف عن المشكلات التي تنهض في وجه هذا النوع من البينيّة المُشوَّهَة حين ذَكَرَ خلافاً جدّ بينه وبين الشرفي حول محتوى كتابٍ أنجزه باحث غير زيتونيّ ليكون ضمن المؤلّفات الموجَّهة للتدريس في الجامعة الزيتونيّة: «صاحب مشروع الكتاب الذي كنّا ننظر فيه اتّجه اتّجاهاً، على الطريقة الاستشراقيّة المألوفة، يشكّك في أنّ القرآن كلام الله ذاته… فلفتُّ النظر إلى أنّنا نشرف على تأليف كتاب موجّه إلى جامعة إسلاميّة لاهوتيّة ملتزمة، وأنّ تَوجُّهَ صاحب المشروع ينافي هذا الاتّجاه الرسميّ للمؤسّسة التي طُلب منّا إعداد كتب عصريّة لتعصير وتحديث التعليم بها، لا لتقويضها من أساسها، بالتشكيك في النصّ الذي هو أساسها، والمقدّس التزاماً وعقيدة بالنسبة إليها»[60]. ويضيف الطالبي: «اكتشفتُ أنّ المكلّف بالمشروع ينتمي إلى مدرسة رفع القداسة عن القرآن[61]… وخلال النقاش قلت إلى ع. م. الشرفي: ألا يوجد في القرآن ولو أخلاقيّة؟ فصعّرَ خدّه مشمئزّاً، وأجاب: كلّا، ولا ذلك»[62].
ما أحببْنا أنْ نلحّ عليه بإيرادنا هذه الرواية هو أنّ استراتيجيات تقويض العلوم الدينيّة تحت عنوان تحديثها وإصلاحها لا يدخل في باب الممارسة العلميّة البينيّة التي تتطوّر بها الحقول المعرفيّة وهي تتقاطع. وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش معمّق، وليس إلى تصفية حساب إيديولوجيّ بواجهة أكاديميّة خدّاعة.
ونتناول في الأنموذج الثالث حدودَ الإصلاح في ميدان المعرفة حين يكون الدافع إليه تخطيطاً سياسيّاً غايتُه تجفيفُ ما يُعتَقَدُ أنّه مَنابعُ يتغذّى منها خصم سياسيّ. فالدولة التونسيّة، على سبيل المثال، قامت بناءً على الأمر الرئاسيّ عدد 96 المؤرّخ في 31 كانون الأول/ديسمبر 1987 بإجراء عمليّة إصلاح كبرى للجامعة الزيتونيّة. وصار الطالب الزيتونيّ، بمقتضى ذلك، «يدرس العلوم الدينيّة بمختلف تفرّعاتها وتنوّعاتها، مرفوقة بالعلوم الاجتماعيّة، وعلم الأديان، والإناسة، وعلم النفس، والفلسفة الغربيّة، والفلسفة الإسلاميّة»[63]. وظهرت مؤشّرات بناء الشخصيّة الزيتونيّة في رحاب المؤسّسة التعليميّة الدينيّة مُغرِيةً بفضل مشروع التشبيك، فقد «بدأ الخرّيجون في تلك السنوات القليلة يعود إليهم الاعتدال المعرفيّ وتسري دماء العصرنة في عقولهم»[64] ولكنّ ثمار التشبيك لا تنضج إلّا بالاستمرار فيه والمداومة عليه؛ فــ «هذان النهجان: نهج الدراسة الكلاسيكيّة ونهج الدراسة الحديثة، اللّذان كان يصبّ كلّ منهما في ذهن الطالب، كانا يتطلّبان تراكم السنين حتّى يُنتَجَ الجيلُ الزيتونيّ المنتظَر… لتحقيق الاعتدال التاريخيّ المفتقَد زيتونيّاً، وحتى تقود الأجيال المراهَن عليها تيّار التحوّل الجذريّ للعقل الدّيني»[65]. ولكنْ، لمّا لمْ يكن الرهان على التشبيك رهاناً إستراتيجيّاً متعالياً على حسابات السياسة وإكراهاتها، فإنّ «ذلك المشروع الثوريّ الذي أُقْدِمَ عليه، من خلال شعار ‘ردّ الاعتبار للجامعة الزيتونيّة’، لم يدم طويلاً وسرعان ما تهاوى»[66].
ونتوقّف في المثال الرابع عندما نقترح تسميتَه بالبيْنيّة الوهميّة، وهي تلك التي لا تزيد عن كونها مجرّدَ تَساكُنٍ ماديّ للاختصاصات في فضاء واحد؛ فالانطباع الأوّل الذي يَحْصُلُ لديْك وأنت تقف مثَلا أمام «كليّة الشريعة والقانون» بجامعة الأزهر هو أنّ هذه المؤسّسة الأكاديميّة العريقة تُؤَمِّن تعليماً بيْنيّاً تمتدّ فيه الجسور بين ما هو من علوم الشرع وما هو من علوم القانون الدنيويّ. وفي التعريف برؤيتها نقرأ في وثائقها الرسميّة ما يلي: «تتطلّع الكليّة لأن تصبح صرحاً شرعيّاً وقانونيّاً متميّزاً معرفيّاً وبحثيّاً، جامعاً بين الأصالة والمعاصرة»[67]. والحقيقة أنّ واو العطف في المركّب العطفيّ «شرعيّاً وقانونيّاً»، وكذا في المركّب العطفيّ «الأصالة والمعاصرة» حرف لا يدلّ على أنّ عمليّة الجمع بين الشرعيّ والقانويّ أو بين الأصالة والمعاصرة تتجاوز التقريب الماديّ وتحقّق الامتزاج الذي يتغذّى به الحقلان.
ويكفي إلقاء نظرة على مقرّرات الدراسة وتخصّصات المدرّسين لنرى أنّنا إزاء منواليْن متباعديْن في التعليم أُريد لهما أنْ يَكونا في مؤسّسة واحدة من الناحية التنظيميّة، وأريدَ للمتعلّم أنْ يَفْسِحَ في وجدانه مساحة للشرعيّ وأخرى للقانونيّ من ناحية ثانية دون أنْ يُسهم هذا الجِوار في إعادة تشكيل المعرفة من خلال إذابة الحدود بين تخصّصاتها. ومَنْ ينظر في عناوين أطروحات الدكتوراه التي نوقِشت في رحاب هذه الكليّة من سنة 2001 إلى سنة 2016 (116 أطروحة حسَب الجدول الذي قدّمتْه إدارة الكليّة)[68]، يجدها واقعةً تحت سقف المعالجات الثلاث التالية: أطروحات اتّجهت في دراسة موضوعها نحو المعالجة الفقهيّة لمذهب معيّن[69]، وأطروحات اتّجهت في دراسة موضوعها نحو المعالجة الفقهيّة المقارنيّة[70]، وأطروحات اتّجهت في دراسة موضوعها نحو المعالجة المقارنيّة بين الفقه والقانون[71]. ولئن كان عدد الأطروحات المنشغلة بالمقارنة بين الشرعيّ والوضعيّ أكبرَ من الاهتماميْن الآخريْن، فإنّ المقاربة بالمقارنة لا تلبّي مطلب البينيّة كما نعلم، بل لعلّها تنْسِفُ معقوليّتها؛ وذلك بإظهار مزايا الشرعيّ وإكراه الوضعيّ على أنْ يسير في ركابه بعمليّات تأويليّة محدودة الفاعليّة.
ونَستقْدم في المثال الخامس، ما يُفيد التضحية بمكتسبات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة مِنْ باب ما يراه بعض الدارسين حمايةً للعلوم الدينيّة من لَوْثَةٍ قد تُصيبها لو توغّلتْ في مساحات تلك العلوم. ويكون الاكتفاء بالحدّ الأدنى منها ضماناً للإبقاء على نظامها وهُويّتها المعرفيّيْن. يقول قطب الريسوني في سياق ما يسمّيه «قواعد القراءة الراشدة للنصّ القرآنيّ» وهو يتّخذ مسافة أمان بينه وبين المناهج الحديثة: «إنّ في مناهج الدرس الأدبيّ واللّسانيّ الحديث خيراً يحجبه عنّا التوظيف الأيديولوجيّ لهذا المنهج أو ذاك، ويزهّدنا فيه شعار (العلمنة) الذي بات باعثاً متسلّطاً على نفوس المولعين بالحداثة الغربيّة»[72]. فالزهد في الإفادة من المناهج الحديثة ليس بسبب علّة أصليّة فيها، وإنّما بسبب ما قَدّر الريسونيّ أنّه توظيف العلمانيّين العرب الإيديولوجيّ لها في قراءة النصّ القرآنيّ.
ولذلك وجدناه لا يستنكف من الاعتراف بما يُمْكن أن تقدّمه هذه المناهج للمعرفة الدينيّة، ولكنّه يمتنع عن مدّ الجسور نحوها إلّا بمقدار قليل: «ليست المناهج الغربيّة كلّها شرّاً يُدحَر وشيطاناً يُرْجَم، وإنّما طريقة الاستثمار كانت مُعيبة مسترذلة»[73]. ويقترح ما يلي: «من المناهج الحديثة التي يُمْكن الاستمداد منها في إضاءة خبايا النصّ القرآنيّ، علم الدلالة الحديث»[74]. وتشي عبارة «يزهّدنا فيها» التي استخدمها الريسوني لا فقط بالحَذَر أو التوجّس، ولكنْ أيضا بالإقرار بأنّ معركة استثمار المناهج الحديثة قد حُسِمَت لصالح مَن اعتبرهم عَلمانيّين.
وفي هذا الإقرار نوعٌ من الهروب من أرض معرفيّة كان بالإمكان تطويعُها لفائدة تجديد القراءة الدينيّة وتنميتها وتزمينها. وهذا الانسحاب يُلاحَظ جليّاً في حجم المساحة التي خصّصها الريسوني للمناهج الحديثة، فالكتاب الذي يتكوّن من قرابة ستّمائة صفحة (584 ص) ليس للمناهج الحديثة من نصيب فيه سوى صفحة واحدة[75]. وهو، بدل أنْ يَصرف العناية إلى محاورة من اعتبرهم عِلمانيّين وأيديولوجيّين في كيفيّات توظيفهم المناهج الحديثة في قراءة النصّ الدينيّ، سخَّر كلّ طاقته لبيان فساد ما أتوْا به. ونظنّ أنّ مَوقِفَ الحذر والحيطة حين يصبح حاجزاً منيعاً دون الانتقال الشجاع إلى فضاءات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لن يُسْهِمَ إلّا في تأخير مَوْعد فتح المعابر بين العلوم وإضاعة الوقت بحجّة الخوف على المعرفة الشرعيّة من التشَوُّه. وعبارة «الفقه السائل» التي استخدمها محمّد المراكبي لإظهار توجّسه من التورّط المبالغ فيه في عمليّات عقلنة المقاصد تُشير هي الأخرى إلى وجود اتّجاه نقديّ يُقيم معقوليّة أطروحته على الانتقاء الجزئيّ من مكتسبات الحداثة بداعي الحفاظ على البناء النسقيّ للفقه والخوف من تفجيره بعمليّات الاقتباس الكبرى[76].
خاتمة
ما نَخلُصُ إليه ممّا تقدّمَ، هو أنّ التقاطع بين الاختصاصات والمناهج الذي يُفْتَرَضُ أنْ تنفتح به المَعابر بين العلوم الدينيّة والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لا يتحقّق بالاستيلاء والاستحواذ عبر نزعة فوقيّة متعالية، ولا بالاستئصال والإلغاء عبر نزعة تهجينيّة يدّعي أصحابُها أنّهم وَحدَهم يملكون مفاتيح العلوم وأسرارَها. فإنْ كان، مِنْ حيثُ المبدأ، أنّه لا اعتراض على إصلاح التعليم في مؤسّسة جامعيّة دأبت على تأمين العلوم الدينيّة بطريقة تقليديّة، فإنّ جَعْلَ هذا الإصلاح تحتَ سلطة علميّة تنتمي إلى مؤسّسات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة يَبْعثُ برسائل غير مُطَمْئِنة منها الإيحاء بفكرة الوصاية التي تفيد بأنّ العقل الدينيّ يُصْلَحُ ولا يُصْلِحُ، ويستفيد ولا يُفيد. وأمّا الإصلاح الذي تأتي به حسابات سياسيّة لتحقيق غَلَبَةٍ سياسيّة، فمآله أنْ يزول بزوال الأسباب التي جاءت به. والحاصِلُ من هذا كلّه أنّ هذا النوع من المقاربات الراميّة إلى إحداث التفاعل بين العلوم الدينيّة والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لا يُمْكنه إلّا أنْ يُقَدّمَ لنا أنموذجا لبيْنيّة مستحيلة بسبب ارتكازه على قاعدة الصراع بدل التكامل، أو على قاعدة التقريب الوهميّ المرتكز على آليّة المقارنة المراد بها تأكيد الاختلاف لا تذليل الصعوبات أمام مشاريع التقاطع بين الحقول المعرفيّة.
[1] – Yves Lenoir, «L’interdisciplinarité: aperçu historique de la genèse d’un concept», in: Cahiers de la recherche en éducation, vol. 2, n° 2, (1995), p. 228
[2] – Wirginia Gewin, «Interdisciplinary Research: Break out», in: Nature, Vol. 511, Issue 7509, 17 July (2014), p. 371
[3]– اُنظر على سبيل المثال قيمة المنح المرصودة للعام الأكاديميّ 2018- 2019 في نصّ البلاغ الصادر تحت عنوان: 2018- 2019 Collaborative Research Projects Call for Proposals” وذلك على موقع المركز الرسميّ: https://francestanford.stanford.edu/collaborative_projects
[4] – هكذا جاء التعريف بجامعة إيكس مرسيليا في موقعها الرسميّ على شبكة الأنترنت: «Aix-Marseille université couvre tous les champs de connaissance; l’interdisciplinarité constitue un avantage comparatif essentiel dans la compétition scientifique nationale, européenne et internationale». https://recherche.univ-amu.fr/fr/la-recherche/organisation-structurelle/interdisciplinarite.
[5] – حوار مع ناصر الدين سعيدوني: «سير الباحثين العرب في مجال الكتابة التاريخيّة: حوار مع المؤرّخ الجزائريّ ناصر الدين سعيدوني»، أسطور، عدد 2، (2015)، ص: 259
[6] – وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ: اتّجاهات- مدارس- مناهج، (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2013). ص: 401
[7] – عبد السلام المسدّي، مراجعات في الثقافة العربيّة، (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ننصح بمراجعة الفصل السابع كاملاً: «الجاحظ ومسألة الإنصاف».
[8] – نفسه، الصفحة نفسها.
[9]– نحيل هنا على مكرم عبّاس في دراسته الجيّدة لعلاقة المعرفة بالإيتيقا وأهميّة التلقّي الموسوعيّ في بناء الشخصيّة من منظور المعرفة كما تمثّلها المسلمون: Makram Abbès, «L’Adab et la formation de l’homme», in: La civilisation arabo- musulmane au miroirde l’universel: perspectives philosophiques, (Paris: UNESCO, 2010), p. 29- 40
[10] – ابن خلدون، المقدّمة، ج 2، (تونس: الدار التونسيّة للنشر/ الجزائر: المؤسّسة الوطنيّة للكتاب، 1984)، ص: 721
[11] – نفسه، الصفحة نفسها.
[12] – للتوسّع في هذه المسألة راجع مثلاً: سعيدي المولودي، «حول مفهوم الأدب عند ابن خلدون»، علامات، عــــ27ــــدد، (2007)، ص: 74- 82
[13] – عبد الرحمان بلعالم، «العلوم الشرعيّة وأثرها في دراسة العلوم الكونيّة والإنسانيّة» ضمن الكتاب الجماعيّ: دور العلوم الإسلاميّة في إرساء الهويّة ومواجهة التحديّات المعاصرة، (الجزائر: جامعة عمّار ثلجي والمديريّة العامّة للبحث العلميّ والتطوير التكنولوجيّ، 2010)، ص: 520
[14] – نفسه، الصفحة نفسها.
[15] – للتوسّع في تصنيف العلوم ومراتبها في الثقافة الإسلاميّة الكلاسيكيّة يُمكن العودة إلى أشهر كتابيْن أُلِّفا في هذا الباب وهما: إحصاء العلوم للفارابي (260- 339هــــ/ 874- 950م)، ومفاتيح العلوم للخوارزمي (164- 232هــــ/ 781- 847م).
[16] – فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، الجزء الرابع، (بيروت: دار الفكر، 1981)، ص: 199
[17] – اُنظر على سبيل المثال: صلاح السيّد عبده رمضان، «المدارس الإسلاميّة في العصور الوسطى ودورها في تطوير التعليم»، مجلّة المعرفة التربويّة، عــــ2ــــدد، (2013)، ص: 1- 27 محمّد أسعد أطلس، التربية والتعليم في الإسلام، (القاهرة: مؤسّسة هنداوي للنشر، 2014). عهود هاشم وسعد زاير، «مبادئ التعلّم عند العلماء العرب بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديّين»، الأستاذ، عدد خاصّ، (2015)، ص: 307- 328 سيبستيان غونتر، «المدرسة بوصفها مؤسّسة للتعليم في العصر الإسلاميّ الوسيط»، ترجمة رضوان ضاوي، التفاهم، عــــ55-56ــــدد، (2017)، ص: 259- 294 فتحي ملكاوي، التراث التربويّ الإسلاميّ: حالة البحث فيه، ولمحات من تطوّره، وقطوف من نصوصه ومدارسه، (عُمان: المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، 2018).
[18] – من أعلام المسلمين المشهورين في هذا المجال: ابن مسكويه (ت241هــــ) صاحب كتاب: تهذيب الأخلاق في التربية، وابن سحنون (ت256هــــ) صاحب: آداب المعلّمين، وأبو الحسن القابسي (ت324هــــ) صاحب كتاب: الرسالة المفصّلة لأحوال المتعلّمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين، وابن عبد البرّ (ت463هــــ) صاحب كتاب جامع بيان العلم وفضله، الغزالي (ت505هــــ) صاحب كتاب: منهاج المتعلّم.
[19] – ابن الجزري، غاية النهاية في طبقات القرّاء، الجزء الأوّل، (بيروت: دار الكتب العلميّة، 2006)، ص: 382
[20] – ابن سعد، كتاب الطبقات الكبير، تحقيق علي محمّد عمر، الجزء السادس، (القاهرة: مكتبة الخانجي، 2001)، ص: 334
[21] – من التآليف المستطرفة في هذا المجال كتاب عوّاد الخلف وقاسم علي سعد: الجامعون بين العلوم الشرعيّة والعلوم التجريبيّة، (دبي: وحدة البحوث والدراسات بجائزة دبي الدوليّة للقرآن الكريم، 2015).
[22] – ناصر الدين سعيدوني، أساسيّات منهجيّة التاريخ، (الجزائر: دار القصبة للنشر، 2000)، ص: 154
[23] – نفسه، الصفحة نفسها.
[24] – الغزالي، إحياء علوم الدين، (جدّة: دار المنهاج، 2011)، ص: 192
[25] – نفسه، الصفحة نفسها.
[26] – ج. ج. كراوثر، تاريخ العلم، ترجمة وتقديم ودراسة: يُمنى طريف الخولي وبدوي عبد الفتّاح، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1998)، ص: 57
[27] – رشدي راشد، (إشراف)، موسوعة تاريخ العلوم العربيّة، الجزء الأوّل، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1997)، ص: 15
[28] – نفسه، الصفحة نفسها.
[29] – نفسه، الصفحة نفسها.
[30] – نفسه، الصفحة نفسها.
[31] – نفسه، ص: 16
[32] – نفسه، الصفحة نفسها.
[33] – نفسه، الصفحة نفسها.
[34] – نفسه، الصفحة نفسها.
[35] – يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول- الحصاد- الآفاق المستقبليّة، سلسلة عالم المعرفة، عــــ264ــــدد، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، 2000)، ص ص: 40- 41
[36] – اُنظر مثلاً: الطبري، تفسير القرآن العظيم، تحقيق مصطفى السيّد محمّد وآخرين، الجزء العاشر، (القاهرة: قرطبة للنشر والتوزيع، 2000)، ص: 513
[37] – محمّد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصّص في الفكر الإسلاميّ العربيّ، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2017)، ص: 27
[38] – من التآليف التي فرضتْها أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإكراهاتها كتاب عبد الرحمان حللي وخالد الصمدي الموسوم بــــ: أزمة التعليم الدينيّ في العالم الإسلاميّ، (دمشق: دار الفكر/ بيروت: دار الفكر المعاصر، 2007). وننصح بقراءة القسم الذي كتبه حللي تحت عنوان: «أزمة التعليم الدينيّ في الجامعات الإسلاميّة» وخاصّة ما تعلّق منه بأزمة المنهج، ص: 133 وما بعدها.
[39]– كان من كُتّابها اللّامعين عالم الاجتماع والسياسيّ ضياء غوك ألب Ziya Gًkalp (1875- 1924). ومن بين مقالاته فيها: «الفقه وعلم الاجتماع» التي انشغل فيها بمسألتيْ الحُسن والقُبْح لدى الفقهاء ومسألتيْ النفع والضرر لدى علماء الاجتماع وبإمكانيّة وجود مساحة مشتركة لمقاربة المصطلحات تحت مظلّة واحدة. اُنظر المقالة في: المجلّة الإسلاميّة (Yslâm Mecmuas)، المجلّد الأوّل، العدد الثاني، ص ص: 40- 44. (نشير إلى أنّ أعداد المجلّة متاحة للتحميل الإلكتروني). راجع مقالة غوك ألب في هذا المجلّد: http://www.zeytinburnu.istanbul/Document/FileManager/islam_mecmuasi_1.pdf
[40]– اُنظر التعريف بهذه المؤسّسة في موقعها الرسميّ على شبكة الأنترنت: https://nama-center.com
[41] – عبد الرزّاق، بلعقروز، «نحو إعادة الوصل بين علوم الوحي والدراسات الإنسانيّة»، نماء، عــــ01ــــدد، (2016)، ص ص: 10- 11
[42] – نفسه، ص: 12
[43] – راجع ذلك في موقعه الرسميّ: http://www.qu.edu.qa/ar/research/IbnKhaldon/about-us (قسم: من نحن؟).
[44] – راجع ذلك في الموقع نفسه (عن المجلّة: الرؤية).
[45] – مشاري حمد الرويح، «التجسير المعرفيّ: الرؤية، المنطلقات والمسارات»، تجسير، عــــ01ـــــدد، (2019)، ص ص: 98-120
[46] – مِنْ أحدث ما كُتبَ وأعمقه وأشمله في هذه المسألة كتاب ساري حنفي: علوم الشرع والعلوم الاجتماعيّة: نحو تجاوز القطيعة. أليس الصبح بقريب؟، (الكويت: مركز نهوض للدراسات والنشر، 2021).
[47] – نفسه، ص: 25
[48] – أحمد بن سعد الخطابي الحربي، «هل العلوم الشرعيّة من العلوم الإنسانيّة؟»، مقالة منشورة في الموقع الإلكتروني: https://www.alukah.net/sharia/0/123128/. 27/11/2017. (نظرنا فيه بتاريخ 13/09/ 2012).
[49] – أحمد حماني، «معاهدنا وعلوم الحياة»، البصائر (جريدة جمعيّة علماء المسلمين الجزائريّين)، عــــ90ــــدد، أيلول/سبتمبر، (1949)، ص: 3
[50] – نفسه، الصفحة نفسها.
[51] – ساري حنفي، علوم الشرع والعلوم الاجتماعيّة، مرجع سابق، ص: 24
[52] – من ذلك على سبيل المثال: مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والطموح الذي انعقد تحت رعاية المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ والجامعة الأردنيّة وجامعة مؤتة وجامعة اليرموك وجمعيّة الدراسات والبحوث الأردنيّة بعمان في 23- 26 آب/أغسطس 1994، والندوة العلميّة التي دارت أشغالها بجامعة الزيتونة (تونس) في 29- 30 نيسان/أبريل2013 تحت عنوان: التكامل المعرفيّ ودوره في الارتقاء بالتعليم الدينيّ، ومن ذلك أيضاً المؤتمر الذي نظّمتْه كليّة الشريعة والدراسات الإسلاميّة بجامعة قطر في 18- 19 أيار/مايو 2014 تحت عنوان: الدراسات الإسلاميّة الجامعيّة في دول العالَم الإسلامي: تحدّيات وآفاق، ومن ذلك أيضاً أنّ مجلّة تجسير جاءت لتنخرط في هذه المغامَرَة الأكاديميّة، فقد نَصَت الرسالة التي من أجلها أُنْشِئتْ على ما يلي: «تسعى (المجلّة) حثيثاً لتجسير الهوّة بين فروع العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة من جانب، وبين العلوم الشرعيّة من جانب آخَر وصولاً لتحقيق التكامل المعرفيّ بينهما». (موقع مركز ابن خلدون الرسميّ المذكور سابقاً). ونشير أيضاً إلى أنّ في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بفاس (المغرب) مختبراً بحثيّاً تحت مسمّى: «مختبر العلوم الدينيّة والإنسانيّة وقضايا المجتمع» وأنّ آخِرَ إصداراته كتاباً عنوانه: «العلوم الدينيّة والعلوم الإنسانيّة أسئلة التكامل والتمايز» (2022).
[53] – هذا السؤال طرحه مركز نهوض للدراسات والبحوث بمناسبة تقديمه كتابَ ساري حنفي، علوم الشرع والعلوم الاجتماعيّة، مرجع سابق، ص: 11. ومن الأعمال الأخيرة التي بحثت في هذا السؤال مؤتمر نحو إعادة بناء الدراسات الإسلاميّة الذي دارت أشغاله في الجامعة الأمريكيّة ببيروت (27- 29 نيسان/أبريل2018). ونُشرت بُحوثه تحت العنوان نفسه في الدار العربيّة للكتاب ناشرون سنة 2019. راجع خاصّة الباب الثاني منه: «ربط العلوم الشرعيّة مع العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة».
[54] – نذكر على سبيل المثال أنّ وائل حلّاق كتب قبل سنوات مقالاً مهمّاً عنوانُه: «هل يمكن إحياء الشريعة؟». وقد أعاد نشره في كتابه القرآن والشريعة: نحو دستوريّة إسلاميّة جديدة، ترجمة أحمد محمود إبراهيم ومحمد المراكبي، (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2015). ونشير أيضاً إلى أنّ أحمد عاطف أحمد ألّف في هذا الصدد كتابا مهمّا عنوانه: فتور الشريعة، ترجمة طلعت فاروق، (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2017). وفي عبارتيْ «الموت» و«الفتور» ما يؤكّد الحاجة إلى تغيير زوايا النظر إلى العلوم الشرعيّة.
[55] – حول التأصيل، راجع على سبيل المثال: محمّد عثمان شبير، التكييف الفقهيّ للوقائع المستجَدَّة وتطبيقاتُه الفقهيّة، (دمشق: دار القلم، 2014).
[56] – عز الدين عناية، «جامعة الزيتونة.. العقل الدينيّ التونسيّ المستقيل»، موقع باب نات الإلكترونيّ: نظِرنا فيه بتاريخ 28/08/2021) https://www.babnet.net/festivaldetail-52887.asp.
[57] – رجب شنتورك، «التبعيّة الفكريّة: المفكّرون العثمانيّون المتأخّرون بين الفقه وعلم الاجتماع»، تجسير، المجلّد الأوّل، عــــ2ــــدد، (2020)، ص: 11
[58] – نفسه، الصفحة نفسها.
[59] – محمّد الطالبي، ليطمئنّ قلبي: قضيّة الإيمان، (تونس: سراس للنشر، 2007)، ص: 88
[60] – نفسه، الصفحة نفسها.
[61] – المقصود ب «مدرسة رفع القداسة عن القرآن» اتّجاه بحثيّ في دارسة الإسلام تزعّمه في كليّة الآداب بمنّوبة الأستاذ عبد المجيد الشرفي. والطالبي ينصّ صراحة على هذا: «هو مؤسّس مدرسة رفع القداسة عن القرآن بكليّة منّوبة»، نفسه، ص: 43
[62] – نفسه، ص: 89
[63] – عناية، «جامعة الزيتونة»، مرجع سابق.
[64] – نفسه، الصفحة نفسها.
[65] – نفسه، الصفحة نفسها.
[66] – نفسه، الصفحة نفسها.
[67]– راجع ذلك في موقعها الرسميّ في القسم المعنوَن بــــ: «الكتاب الجامعي». https://fshariaandlaw.edu.eg/page-56.php
[68] – اُنظر الجدول في: https://fshariaandlaw.edu.eg/page-21.php. (نظرنا فيه بتاريخ 03/09/2021).
[69] – مثال ذلك: «المصلحة المرسلة عند إمام الحرمين أبي المعالي تنظيراً وتطبيقاً من خلال كتابيْ البرهان ونهاية المطلب في دراية المذهب».
[70] – مثال ذلك: «أحكام التقديم في المعاملات في الفقه الإسلاميّ: دراسة فقهيّة مقارنة».
[71] – مثال ذلك: «أحكام الإرهاب في الفقه الإسلاميّ والقانون الوضعيّ».
[72] – قطب الريسوني، النصّ القرآنيّ من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر: مدخل إلى نقد القراءات وتأصيل علم التدبّر القرآنيّ، (الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، 2010)، ص: 472
[73] – نفسه، الصفحة نفسها.
[74] – نفسه، ص: 473
[75] – اٌنظر النصف الثاني من الصفحة 472 والنصف الأوّل من الصفحة 473
[76] – محمّد المراكبي، «الحداثة وتحوّلات الخطاب المقاصديّ: نحو فقه سائل؟»، Journal of Islamic Ethics، عــــ3ــــدد، (2019)، ص: 9- 29
باحث وجامعيّ تونسيّ في رتبة أستاذ تعليم عال بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. من خرّيجي في دار المعلّمين العليا بسوسة.