في البينيّة اصطلاحاً وتاريخاً


في البينيّة اصطلاحاً وتاريخاً

نعتقد أنّ الانطلاق من النظر في الحمولة الاصطلاحيّة لمثل هذه المباحث التي لم تستقرّ بَعْدُ في المجال البحثيّ العربيّ والإسلاميّ، مُفيد نظراً إلى ما يُوفّرُه من مضامين معجميّة وتاريخيّة ودلاليّة تتأكّد بها مشروعيّة إدراجها ضمن اهتماماتنا المعرفيّة؛ فَما البيْنيّة؟ وما مسارات تطوّرها؟

في هذا الإطار، تَفْرِضُ ثلاثةُ مصطلحات نفسَها من جهة كونها الأكثرَ حضوراً وفاعليّة في أسئلة المنشغلين بقضايا المعرفة والمنهج، وهي: «الاختصاص» discipline، و«تقاطع الاختصاصات» interdisciplinarité/interdiciplinarity، و«الاختصاص العابر للاختصاصات» transdisciplinarité/ transdiciplinarity. ولكنّنا نشير، قبل الانصراف إلى تفصيل القول فيها، إلى أنّه توجد مصطلحات أخرى تدور مضامينُها على بعض ما في المصطلحات الثلاثة التي اخترْنا الاهتمام بها، وإذْ لا نستدعيها، فلأنّنا نرى أنّها لا تُضيف إلى ما نحن بسبيل إليه ما به يتغيّر مسار البحث في البيْنيّة. ومن تلك المصطلحات مصطلح تعدّد الاختصاصات Pluridisciplinarité/multidiciplinarity. ونشيرُ أيضا إلى أنّه كثيراً ما يلجأ الباحثون في هذا الميدان إلى وضْع رسوم بيانيّة لتقريب المعاني من ذهن القارئ. وفي الرسم التالي خمسة مصطلحات تشير إلى نوع العلاقة التي بينها[1]:

فأمّا الاختصاص، فالراجح أنّه عَرَفَ ولادتَه اختصاصاً في القرن الرابع عشر مع الفرنسيّ نيكولاس أوراسمي (1320- 1382) Nicolas Oresme، وكان الغالب على دلالته طريقةَ تعليم المتعلّم discipulus لا العلم disciplina في ذاته. وكان مناطاً بجامعات أوروبّا في العصر الوسيط تأمينُ المعارف السبع المتواطَأِ على أنّها محور العمليّة التعليميّة والتربويّة آنذاك: الحساب والهندسة والفلك والموسيقى والبلاغة والنحو والحجاج[2]، ولكنّه تمحّض، شيئاً فشيئاً، للدلالة على المعرفة المختصّة بميدان من ميادين العلم، باعتباره نظاماً معرفيّاً، وحَلّت محلّ الفروع السبعة قيمٌ جديدة متناغمة مع فلسفة الحداثة.

ومِنْ أبرز ما يمْكن تسجيلُه في مآل الاختصاص أنّ القرن التاسعَ عشر انتصر لقاعدة التخصّص spécialisation بناء على متطلّبات الثورة الصناعيّة في العلوم التجريبيّة كما في العلوم الإنسانيّة[3]. وأمّا مصطلح تقاطع الاختصاصات، فالراجح أنّ ولادتَه كانت في القرن السابعَ عشر[4]، ولكنّ الطلبَ عليه تكثّف في القرن العشرين، وخاصّة بين عَقديْ الأربعينيات والثمانينيات مع تَشعُّب المعارف وتنوّع الفروع العلميّة وتَأكُّد الحاجة إليه في شتّى مجالات البحث النظريّة والتطبيقيّة، الطبيعيّة والإنسانيّة[5]. وأمّا مصطلح الاختصاص العابر للاختصاصات، فهو الأحدث تاريخيّاً. ويبدو أنّ الالتفات إليه انطلق بصورة فعليّة في تسعينيات القرن العشرين.

ونودّ أنْ ننقلَ، ونحن في السبعينيات، آمالاً أو أحلاماً راودت بياجيه، وهو يستشعِرُ محدوديّة أداء «تقاطع الاختصاصات»، قال: «نستطيعُ أن نَأْمَلَ ونحن في مرحلة تقاطع الاختصاصات المرورَ إلى مرحلة أعلى، وهي ‘الاختصاص العابر للاختصاصات’ الذي لا يَرضَى بمجرّد الوصول إلى التفاعل بين الاختصاصات»[6]. وكان ذلك علامةً على أنّ المعرفة في هذا الزمن تحتاج إلى منهج آخَر لتُدرِكَ أهدافاً تَقْصُر دونها المناهج المستخدمَة. ففكرة عبور الاختصاصات تنتمي إذن إلى سياق نقدِيّ يقوم على التجاوز ويُعَبَّرُ عنه بالمابعديّات. وهذا ما تُبرزه السوابق المعجميّة préfixes من قبيل «post» و«méta» و«trans» التي تُفيدُ، بدايةً من تسعينيات القرن العشرين، السعيَ نحو فهم نسقيّ متكامل للمعرفة ورغبةً في بناء معقوليّة شاملة للكون[7]. وقد تناغَم ذلك مع إصدار المؤتمر الدوليّ الأوّل للاختصاصات العابرة، ميثاقَ شرفٍ أشْبهَ ما يكون بدستور للمعرفة سُمِّيَ «Charte de la transdisciplinarité»[8]، وهو مُخْتَرَقٌ بعَبَقٍ إيتيقيّ لا تُخْطِئُه عينُ الباحث. ووظيفتُه تحويل «الحوار بين الاختصاصات» إلى تفاهم بين الشعوب وسلام بين الثقافات[9]. وهذا، كأنّه يُذكّرنا بالاتّجاه الكوسمولوجيّ الذي شَرّع لإبستيمولوجيا المعرفة القديمة بأنْ تكون معرفة توحيديّة unificatrice[10].

ومن المهمّ أنْ نشير إلى أنّ ما يُستفاد مِنْ تتبّع تاريخ العلوم ونوع العلاقات بينها أنّه كان ثمّة دوماً شيء من الاتّصال إمّا عَفويّاً أو عن قصد، وهو ما يعني أنّ البينيّة لم تكنْ شأناً جديداً كلّ الجدّة، فتُنْسَب على وجه الحصر إلى متطلبّات المعرفة الحديثة وتعقيداتها. ومن الأمثلة التي يصحّ الاستشهاد بها في هذا المقام التعليمُ؛ ففي اليونان كانت أنظمة التعليم حريصةً على تمكين المتلقّي من مادّة تعليميّة متنوّعة يُصبحُ بها مؤهَّلاً لممارسة وظائفه في المجتمع. وعبارة enkyklios paideia تلخّص هذه الفلسفة؛ فالبُعد الموسوعيّ الذي تتضمّنه تَجَسَّدَ عمليّاً ونظريّاً في إستراتيجيّات التلقّي لدى فلاسفة اليونان بمختلف مشاربهم.

وينبغي لفتُ النظر إلى أنّ إبستيمولوجيّي المعرفة فرّقوا بين النزعة الموسوعيّة لدى الفلاسفة قديماً ونظيرتها كما تُتَداوَلُ اليوم، وهو تفريق ينهض على فكرة أنّ وحدة المعارف عند القدامى متأتّية من إيمانهم بالتصوّر القائم على وحدة الكون ووحدة الإنسان. فالبعد التوحيدي unificatrice ليس فقط مجرّد تجميع للمعارف المتباعدة ووضعها جميعاً في سلّة واحدة أو عقل واحد. إنّه تعبير عن تصوّر كوسمولوجيّ متكامل الأركان. وقد عبّر إدغار موران Edgar Morin عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بعد أن بيّن وظيفيّة التقاطع وضرورتَه[11]. واعتمد موران لتأكيد مَذْهَبِه أمثلة متنوّعة للتقاطعات بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، وتوسّع في استخلاص النتائج والمجيء بالمسوّغات الكوسمولوجيّة المؤيّدة وحدةَ المعارف[12].

كان ثَمّة وَلَعٌ بتشبيك حقول كثيرة بعضها في بعض كالموسيقى والحساب والبلاغة والشعر والسياسة والأخلاق لبناء الشخصيّة المدينيّة اليونانيّة[13]. وفي العصور الوسطى لم تَخْلُ الجامعات الأوروبيّة من تأثيرات المعرفة الموسوعيّة القديمة المُعَبَّرِ عنها بــــ: orbis doctrinae؛ فالبلاغيّون الرومان الذين أخذوا المشعل من فلاسفة اليونان تبنّوْا تلك الفلسفة، وأسهموا في تطويرها، وأحالوها على أساتيذ الجامعات الوسيطيّة.

وممّا يُذْكَرُ في هذا الصدد، أنّه «انطلاقاً من القرن الثالث عشر أَسنَدت المؤسّسة الجامعيّة لكليّة الفنون السهر على تأمين نظام الفنون الحرّة؛ أيْ تلك الاختصاصات الضامنة حريّة الفكر في إطار مجموعة موحّدة تجمع الآداب والعلوم معاً»[14]. وكان الثالوث المتجاور trivium النحو والبلاغة والحجاج يتقاطع مع الرباعيّ quadrivium الحساب والهندسة والفلك والموسيقى. ومِثْلُ هذا الأمر قابلٌ للفهم إذا علمنا أنّ دلالة مصطلح الجامعة universitas في لاتينيّة العصور الوسطى تعني الجماعة العلميّة universitas studiorum المتضامنة في ما بينها المدبّرة لشؤونها بعيداً عن تدخّل العناصر التي لا تنتمي إليها. وعلى هذا الأساس، يكون التقاطع بين المعارف داخل هذه الجماعة جزءاً من مشروعيّة وجودها واستمرارها[15]. وقد واصلَ عصر النهضة جزئيّاً ومرحليّاً العملَ بهذه الفلسفة، فزكّى التعليم الموسوعيّ وجدّده. وتُعتَبَرُ تجربة «معاهد الشباب اليسوعيّ» في فرنسا الأنموذج الأرقى لبيداغوجيا تقاطع الاختصاصات آنئذ قبلَ أنْ يتمّ إلغاؤها في العقد السادس من القرن الثامن عشر[16]. وجدير بالتنويه أنّه ينبغي، في ضوء ما تقدّم، عدمُ التعامل مع مسألة التقاطع بين العلوم من زاوية تقنيّة فحسْب، أو النظر إليها باعتبارها حصيلة ضغوط فرضتْها الوضعيّات البحثيّة داخل الحقول المعرفيّة المغلقة. فشبكات المعرفة ليست في الحقيقة إلّا روافد وجداول للحضارة. وكلّما تَجدّد تدفّقها انسكب بعضها في بعض وتهيّأت الأسباب للتقدّم الحضاريّ. وهذا تؤكّده وقائع النهضة الأوروبيّة على سبيل المثال. فدلالة الولادة الجديدة التي في مصطلح Renaissance ما كانت لتكُونَ لولا فيضان المعارف والعلوم بعضها على بعض في إطار بناء رؤية جديدة للإنسان والوجود عُرِفتْ اختزالاً بــــ«الإنسيّة» Humanisme التي انفصلت بها فلسفة الأنوار، بمعناها الواسع، عن تعاليم الكنسية وقواعد الإنتاج المادّيّ والرمزيّ المرتبطة بها. ولا عجبَ حينئذ أنْ تكون أوروبّا مُختَبَراً ضخماً لفاعليّة منهج التقاطع، وأنْ تكون المؤسّسات الأكاديميّة مُختَبَراً مُصَغَّراً له. وعلى هذا الأساس، أبَحْنا لأنفسنا القول إنّ المسألة البينيّة لا تُمارَسُ فقط وحصْراً داخل الفضاءات الأكاديميّة المُغلقَة، بل تفيض ليُرَى أثرُها في جميع الأنشطة الإبداعيّة التي تترقّى بها المجتمعات، وهو ما يعني أنّ للبينيّة غاياتٍ ومقاصدَ تتجاوز ما هو تقنيّ ومخبريّ[17].

ويَحْسُن التنويه أيضا بأنّ مسألة التقاطع التي تُلْتَمَسُ داخل تاريخ المعرفة، لئن كانت حقيقةً واقعيّة، ومبحثاً أصيلاً في الإبستيمولوجيا والميتودولوجيا، وعلامةً على أنّ المهتمّين بفلسفة العلوم واعون منذ أزمان سحيقة بأنّ تطوّرها وترقّيها لا يَتِمّان إلّا بإزاحة السواتر بينها، ليستْ مُقنّنةً أو مُمَأْسَسةً على النحو الذي يجعل طَلَبَها فريضة علميّة وحضاريّة في آن. ولذلك لم يكن عجيباً أنْ تُسْتكشَفَ مساحاتُ التقاطع صدفةً حين يجد الباحثون المنحدرون من اختصاصات متباعدة أنفسَهم وجها لوجه يقفون على أرضيّة واحدة، وقد يطرحون الأسئلة نفسها. فليس مستبعَداً إذن أنْ تَكُون هذه اللّقاءات قد نَبّهت الباحثين على أنّه لئن كان لمساحات العلوم دَوَاخِلُ يُمكن تأمينُها والاستحواذ عليها وتَمَلُّكُها بداعي الاختصاص، فإنّ ضبْطَ حدودها مع أجوارها من العلوم أمرٌ غير يسير. لذلك يَغلُبُ على ظنّنا أنّ التقاطع، في مسار تطوّر المعارف، كان يَفْرِضُ نَفسَه على الاختصاصات، فهو كأنّه ضرورةٌ وإنْ لم يُسْتَدْعَ استدعاءَ الوعي به، ولم يصبح مطلباً يُلحُّ المؤمنون به على وجوبيّة أن يتحوّل إلى نشاط أكاديميّ «شرعيّ» إلّا في زمن متأخّر نسبيّاً بعد أنْ توسّع الإنسان في الاكتشافات وازدادت احتياجاته إلى السيطرة على العالَم. وربّما كان الإلحاح عليه مِنْ علماء الطبيعة (الفلك، الفيزياء، الطبّ…) أشدَّ أوّل الأمر لأسباب يطول شرْحُها.

وعموماً، يُمكنُ القول، مع شيء من المبالغة، إنّ تاريخ العلوم في العصور الحديثة كانتْ قاطرتُه العلومَ الطبيعيّة. وكانت العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة متأثّرة بما يَحْدثُ في الطبيعيّات ومحتذية حذوها. وتُظهر الدراسات المقارَنة بينهما أنّ مطلب التقاطع في مجال الإنسانيّات كان يتكامل مع المطلب نفسه في مجال الطبيعيّات باعتبار الالتقاء على الهدف نفسه، وهو السيطرة على العالَم والتحكّم فيه وتوظيفه. ولكنّ هذه الدراسات انتبهت في الوقت نفسه، إلى أنّه لئن كانت حصيلة التشبيك الداخليّ بين مختلف فروع العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة مهمّةً، فإنّ خوض مغامرة التشبيك مع العلوم الطبيعيّة مازال دون المأمول. ومن الأمثلة على ذلك قضيّة التغيّرات المناخيّة التي تَكثّفتْ فيها جهودُ مئات المتخصّصين في العلوم الدقيقة والعلوم الطبيعيّة، في حين أنّ عدد الباحثين فيها من العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لا يتعدّى بضع عشرات.

وليس المراد من تحصيل هذا الاستنتاج مجرّدَ عمل بحثيّ تقنيّ أو شكليّ. إنّه يتنزّل في صميم مقاصد التشبيك السابق ذِكْرُها، وهو ما يتجلّى في النزعة النقديّة المرافقة للملاحظة المتعلّقة بضمور التشبيك بين العلوم الطبيعيّة من جهة، والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة من جهة ثانية: «هذا الحضور المتدنّي للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في الأعمال المهتمّة بالتحوّلات المناخيّة يكشف أنّ الأبعاد الثقافيّة والأخلاقيّة والنفسيّة والروحيّة لهذه الظاهرة إنْ لم تكن منعدمة، فأخْذها بعين الاعتبار محدود»[18]، وهو ما يعني أنّ سياسةَ تحفيز العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة على اقتحام حقل الطبيعة تهدف إلى أنسنة الأعمال التي تُنجَز داخلها عَسَى يتقلّص حجم الاعتداء على النظام الطبيعيّ وإلحاق الضرر بتوازن مختلف مكوّناته.

وتبدو أطروحة الفكر المركّب pensée complexe التي تخترق مجمل أعمال موران من أبرز الأطروحات التي تُمارِسُ نوعاً من النقد الذاتيّ لمسار الفكر العلميّ القائم على الفصل بين الاختصاصات الذي تحكّم طويلاً في فلسفة العلوم الغربيّة خاصّة مع الحظوة الكبيرة التي وقع بها تلقّي التصوّر الديكارتيّ للعلاقة بين الحقول المعرفيّة. صحيح أنّ موران لا يُعبّر صراحةً عن انزعاجه من الآثار التي تركَها هذا التصوّر، غير أنّه لا يُخفي أَسَفه لعَدم التفطّن إلى قيمة ما عَرَضَه باسكال (1623- 1662) Pascal حول انتظام الأجزاء داخل الكلّ، وحول استحالة ترتيب فهم حقيقيّ ينتج عن كلّ عمليّة تستهدف فصل الأجزاء بعضها عن بعض فصلاً تكوينيّاً[19].

وإذْ يدافع موران عن البناء التركيبيّ للمعرفة، فإنّه ينتصرُ لمبدإ فلسفيّ عامّ وهو وحدة الوجود، بما في ذلك وحدة الإنسان. ويرى أنّه كأنّه من المتعذّر إدراك السيرورة التي تمرّ بها العناصر المُفْرَدَة لبناء الكليّ، وهو ما يعني أنّ الكليّ، رغم أنّه محصول اجتماع الأجزاء فيه، لا يسمح لنا بالقول عنه إنّه فعْلاً حصيلةٌ حسابيّة لمجموع تلك الأجزاء. إنّه أوسع منها من ناحيّة، وأضيق منها من ناحية أخرى بِسبب علميّات المزج والتحويل والتنظيم التي تَخْلُق في نهاية الأمر ذاك الكليّ. والمثال الذي ضَرَبَه في هذا الصدد يُساعد على إدراك دلالة المعرفة التركيبيّة؛ إنّه حياكة الزربيّة. فالزربيّة تتكوّن من خيوط كتّان وقطن وحرير وصوف ذات ألوان مختلفة. واللّافتُ أنّه حين نرغب في معرفة هذه الزربيّة ما تكون تحديداً، يكون «من الضروريّ معرفة كلّ نوع من تلك الخيوط ومبادئها، غير أنّ مجموع المعارف المتعلّقة بخصائص الخيوط المساهمة في صناعة الزربيّة غير كافٍ لا فقط لمعرفة الحقيقة الجديدة لهذا النسيج أيْ ميزاته وخصائصه، ولكنّها فوق ذلك، غير قادرة على مساعدتنا على التَعَرُّفِ على شكله وتَشَكُّله»[20].

ما نحتفظ به من هذا العرض التأليفيّ السريع لتقاطع الاختصاصات تعريفاً وتاريخاً ومقاصدَ في المُنجَز المعرفيّ الغربيّ أنّ المساريْن الأساسيّيْن اللّذيْن نَضجت داخلهما هذه المسألة، وهما مسار الانفصال ومسار الاندماج لئن رجحت الكفّة فيهما للثاني رجحاناً يَصعب العودة عنه، فإنّ القبول به على أنّه الخاصيّة المستقرّة بصفة نهائيّة في إنتاج المعرفة مازال يُلاقي شيئاً من الاعتراض أو عدم الاقتناع بجدواه. وقد أبرزت خلاصات بعض الدراسات التي تتبّعت مسار التقاطع حتّى في القرن الواحد والعشرين أنّ هذا النشاط الأكاديميّ، رغم ما شهده من تطوّر «لم يصبحْ إلى حدّ الآن تيّاراً مهيمِناً. إنّه، بالأحرى، ضدّ- تيّار contre- courant بالنسبة إلى كثير من المؤسّسات الأكاديميّة والبحثيّة، بل إنّ غيرَ قليل من الدارسين يؤكّدون أنّ تقاطع الاختصاصات يتناقض مع المبادئ الأساسيّة لإنتاج المعارف التخصّصيّة»[21].

وهذا ما يُلَاحظ في بعض ردود الأفعال على التوجّهات الإصلاحيّة لمنظومات التعليم في هذا البلد أو ذاك. ففي فرنسا، على سبيل المثال، لقيَ سنة 2015 مشروعُ إصلاح التعليم الخاصّ بالمرحلة الإعداديّة المعروف باسم «التعليم التطبيقيّ البينيّ» EPI معارضة شديدة من النقابات التي دعت إلى تنفيذ إضراب وطنيّ يوم 17 أيلول/سبتمبر 2015 بدعوى أنّ مشروع تقاطع الاختصاصات مُضرّ بالمعرفة التخصّصيّة وبالأساتذة والتلاميذ[22]، رغم أنّ «علماء الاجتماع والمختصّين في علوم التربية يتّفقون في أغلبهم على أنّ تقاطع الاختصاصات يوفّر للشباب الفرصةَ كي يستوعبوا الهدف ممّا يَدْرُسون من خلال عمليّات التناصّ والتقاطع بين المقاربات»[23]. وقد تتحوّل هذه الاعتراضات بأقلام رسّامي الكاريكاتور إلى لوحات ساخرة من مشاريع التشبيك بين الاختصاصات كهذا الرسم[24] الذي يقول فيه أستاذ الرياضيّات مستهزئاً: «تَقاطعُ الاختصاصات؟ لا شيء عندي ضدّه؛ منذ خمس وعشرين سنة وأنا أدَرِّسُ الــــ maths والــــmatiques»؛ يقول ذلك وهو يتعمّد توزيع كلمة mathématiques على مقطعيْن يتوسَّطُهما حرف (é) maths/é/matiques. ويقع توظيف هذا الحرف ليصبحَ حرف عطف (الواو et). وبهذا تَكُونُ كلمة mathématiques عبر التصرّف الكاريكاتوريّ فيها دالّةً على عمليّة تشبيك بين اختصاصيْن هما maths وmatiques.

من الخلاصات التي نحتاج إلى الاحتفاظ بها أنّ التفكير في الاختصاص لم يقع خارج دائرة الاهتمام بإشكاليّات المعرفة وإبستيميّتها، وأنّ المصطلحات لم تُستحْدَث إلّا لإظهار تاريخيّة المعرفة، والأطوار التي مرّت بها، والمآزق التي اعترضتْها، والآفاق التي ارتادَتْها.

وتوقّف بنا العَرْضُ عند أمريْن مهمّيْن: مفاد الأوّل أنّ علاقة العلوم بعضها ببعض تحكّمتْ فيها إبستيميّتان: إبستيميّة قديمة تنهض على فكرة أساسيّة مفادها أنّ وحدة العلوم من وحدة الكون ووحدة الإنسان، وإبستيميّة حديثة فرضتْها فتوحات المعرفة المتدفّقة بغزارة في جميع المجالات والميادين. فالتوحيد في الأولى تغلبُ عليه الإيتيقا، والتوحيد في الثانية تغلب عليه البراغماتيّة، ومفاد الثاني أنّ الثقافة الحيّة داخل سياقات منتِجَة هي التي تدفع إلى إنتاج المعرفة وتجريبها وتحسين أدائها وتجاوز قصورها؛ فلا علمَ أو منهجَ ينموان داخل ثقافة طاردة لهما.

وبدا لنا أنّ هذا النهج أضحى في عموم المؤسّسات والمراكز العلميّة الغربيّة سياسة رسميّة نظراً إلى ما أتاحه من إمكانات حقيقيّة لتطوير المعرفة والتصرّف بنجاعة أكبر في عالَمَيْ الإنسان والطبيعة. وأمّا الاعتراضات عليه أو النقاش الذي رافق مسيرتَه حول جدواه، فلا يشكّلان تهديداً فعليّاً لمشروعيّته. إنّهما من العلامات الدالّة على حيويّة هذا الأفق؛ وهو ما يُحْسَبُ له لا ضدّه.

[1] – اُنظر الرسم في: Farnaz Nickpour, “Disign Meets Death. A Case of Critical Discourse and Strategic Contributions”, in: Design Journal, April, (2019).

[2]– اُنظر على سبيل المثال:          Jean- Pierre Kesteman, «L’un, le multiple et le complexe: l’université et la transdisciplinarité», in: Acontrario, vol. 2, n«1, (2004), p. 89- 108

[3]– راجع حول التخصّص والحمولات الجديدة لمصطلح الاختصاص الناشئة في القرن التاسع عشر: Julie Thompson Klein, Interdisciplinarity: History, Theory and Practice, (Detroit: Wayne State University Press, 1990), p. 21 والفصل الأوّل من هذا الكتاب على غاية من الأهميّة من حيث المقاربة التاريخيّة- التطوّريّة للمصطلح. فقد أوردت فيه الكاتبة كثيرا من التفاصيل والتدقيقات والإحالات النوعيّة: «Definitions of Interdisciplinarity», p. 17-74

[4]– نستفيد هنا على نحو خاصّ من إيف لونوار (Yves Lenoir)، ونعلم أنّ الاختلافات موجودة بين الدارسين حول تاريخ نشأة المصطلح وتطوّره. وسبب اختيارنا الإحالة على لونوار أنّ دراستَه حاولت الوقوف عند المحطّات الأساسيّة التي تأخذ فيها الكلمة دلالة جديدة أو معنى غالبا على معانيَ أخرى. Yves Lenoir, «L’interdisciplinarité: aperçu historique de la genèse d’un concept», in: Cahiers de la recherche en éducation, vol. 2, n« 2, (1995), p. 227- 265

[5] – من الدراسات المهمّة التي راقبت حركة المفهوم وتطوّره وَوَجْهَ الحاجة إليه في هذا العصر، دراسةُ ستانيسلاف سميرنوف (Stanislav Nikolaevitch) الموسومة بــــ: «L’approche interdisciplinaire dans la science d’aujourd’hui: fondements ontologiques et épistémologiques, formes et fonctions», in: Interdisciplinarité et sciences humaines, vol. I, (Paris: PUF, 1983), p. 53- 71 ومِنْ لطيف الإشارات إلى كثرة العناية به لدى الباحثين في هذا المدى الزمنيّ أنّ القائمة البيبليوغرافيّة التي أوردَتْها جولي كلين (Julie Klein) في نهاية كتابها المشار إليه آنفا جاءت في ثمانٍ وعشرين صفحة تضمّنت جميعُها دراساتٍ جديدةً حول مسألة تقاطع الاختصاصات.

[6]– «… à l’étape des relations interdisciplinaires, on peut espérer voir succéder une étape supérieure qui serait «transdisciplinaire», qui ne se contenterait pas d’atteindre des interactions ou réciprocités entre recherches spécialisées», op. cit, p. 170

[7]– نحيل في إطار البحث عن مقاصد المعارف العابرة وترابطات الاختصاصات فيها إبستيميّاً وأنثروبولوجيّاً وإيتيقيّاً على: Jean- Paul Resweber, Le pari de la transdisciplinarité: vers l’intégration des savoirs, (Paris: L’Harmattan, 2000). Voir notamment chap. I: {La question} , p. 9- 27

[8] – راجع هذا «الدستور» في: Basarab Nicolescu, La transdisciplinarité: Manifeste, (Monaco: Editions du Rocher, 1996).

[9]– ما يُسمّى السياقات الثقافيّة العامّة تستطيع أنْ تقدّم لنا تفسيراً مقبولاً إلى حدّ ما للتقاطع. يُمكن العودة في هذا المجال إلى: Jean- Paul Resweber, La méthode interdisciplinaire, (Paris: PUF, 1981), voir chap. II: {Le contexte culturel de l’interdisciplinarit}, p. 22- 32

[10] – نصّت المادّة الثالثةَ عشرةَ مثلاً على ما يلي: «L’éthique transdisciplinaire récuse toute attitude qui refuse le dialogue et la discussion, quelle que soit son origine- d’ordre idéologique, scientiste, religieux, économique, politique, philosophique».

[11] – «Mais il serait tout à fait insuffisant de se contenter de convoquer ces disciplines autour d’une table ronde. Ce qui nous intéresse ici relève non pas de la juxtaposition des «facteurs» isolés, chacun réparti dans une discipline, mais de leurs interactions au sein d’un système global, Homo constitué précisément par ces interactions elles- mêmes», Edgar Morin et Massimo Piatelli- Palmarini,«L’unité de l’homme comme fondement et approche interdisciplinaire», in: Interdisciplinarité et sciences humaines, op.cit, p. 208 ونذْكُر كذلك أنّ لجان بياجيه في دراسته المذكورة سابقاً إسهاماً لافتاً في هذا الباب. اُنظر على نحو خاصّ ملاحظاته الدقيقة حول البيولوجيا وما وفّرتْه من إمكانات لتقاطع الاختصاصات بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، ص ص: 162- 163

[12]– الحقيقة أنّ الذين اشتغلوا بالعلوم الطبيعيّة والتقاطعات بينها وبين العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة وفّروا أدلّة متنوّعة على أنّ العلوم يُطوّر بعضها بعضاً، كلّما اقترب بعضها من بعض؛ راجع في هذا الصدد على سبيل المثال: Jean Piaget, «L’épistémologie des relations interdisciplinaires», in: l’interdisciplinarité problèmes d’enseignement et de recherche dans les universités, (Paris: CERI, 1972), p. 155- 171

[13]– للتوسّع، راجع على سبيل المثال: – Werner Jeager, Paideia: the Ideals of Greek Culture, Translated from the Second German Edition by Gilbert Highet, vol. I (Archaic Greece: The Mind of Athens), (Oxford: Basil Black Well, 1946), p. 286- 297 – PierreHadot, Qu’est- ce que la philosophie antique?, (Paris: Gallimard, 1995), p. 30- 32

[14]– Georges Gusdorf, «Passé, présent, avenir de la recherche interdisciplinaire», in: Interdisciplinarité et sciences humaines, op. cit, p. 32

[15]– حول هذا المصطلح يُمكن العودة إلى دائرة المعرف العالميّة (Encyclopedia Universalis) في ما ورد تحت عنوان: «Moyen Age: les universités médiévales». ويُمكن العودة بالنسبة إلى نشأة الجامعات في العصور الوسطى وأدوارها ومناهجها وبرامجها إلى: Jacques Verger, Les Universités au Moyen Age, (Paris: PUF, 2013). Voir notamment chap. II {Les universitإs comme corporation} , p. 47- 78

[16]– يقول غوسدورف في هذا الخصوص: «Cette pédagogie de la totalité, renouvelée sans rupture à l’époque de la Renaissance, s’est perpétuée sous la forme de l’humanisme traditionnel, en particulier dans le cadre du collège jésuite, dont la suppression, aucours des années 1760- 1770, a été une catastrophe dans le domaine de l’enseignement», op. cit, p. 32

[17] – لفريدريك معتوق دراسة مقارنة مهمّة في هذا الشأن ننصح بالعودة إليها: «مثقّفو الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة ومثقّف دائرة المعارف العربيّة»، تبيّن، عدد 13، مجلّد 4، (2015)، ص: 41- 56

[18] – Roderick J. Lawrence, «Convergence: defies disciplinaires et réponses transdisciplinaires», in: Frédéric Dardellay, Maude Louviot et Zoe Moudy (sous la direction de), L’interdisciplinarité à l’école: succès, résistance, diversité, (Neuchâtel: Editions Alphil- Presses universitaires suisses, 2019), p.50

[19] – Morin, «Sur l’interdisciplinarité», in: L’autre forum, mai (2003), p. 10 وقد استشهد موران بهذا المقطع النصّي من كتاب باسكال أفكارIdées, «Toutes choses étant causées et causantes, aidées et aidantes, médiates et immédiates, et toutes s’entretenant par un lien naturel et insensible qui lie les plus éloignées et les plus différentes, je tiens impossible de connaître les parties sans connaître le tout, non plus que de connaître le tout sans connaître particulièrement les parties».

[20]– Morin, Introduction à la pesée complexe, (Paris: Seuil, 2005), p. 113

[21]– Roderick J. Lawrence, «Convergence: défies disciplinaires et réponses transdisciplinaires», op.cit, p. 49- 50

[22] – نشرت جريدة لوموند Le Monde بتاريخ 09 أيلول/سبتمبر 2015 مقالة لسيفيران غرافالو Séverin Graveleau بعنوان مثير وهو: «Réforme du collège: l’interdisciplinarité au cœur de la contestation»

[23] – نفسه، ص 11

[24] – وهو للرسّام يانّْ كولكانوبا Yann Colcanopa. وهذا الرسم موجود في المقال السابق.

علي الصالح مولى

باحث وجامعيّ تونسيّ في رتبة أستاذ تعليم عال بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. من خرّيجي في دار المعلّمين العليا بسوسة.
زر الذهاب إلى الأعلى