الفكر والعنف نحو “لا وعي أنطولوجي”
“لا يكون بمقدورنا أن نفكر إلا عندما نرغب في ما يكون، في ذاته، ملزماً وموجباً لأن يحفظ في الفكر”. هايدغر
Qu’appelle-t-on penser? traduction française, p.u.f, 3″ édition Paris, 1973.
“إنّ موضوع الفكرة التي تكوّن النفس الإنسانية هو الجسم، أي: حال من الامتداد الموجود والذي يكون في فعل، ولا شيء آخر”. سبينوزا
الإيتيقا، القضية 13 من الكتاب الثاني.
لعلّ واحدة من التعاليم الأكثر شهرة ورسوخاً عن الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه قوله إننا لا نأتي إلى الحقيقة إلا مكرهين، فسؤال الحقيقة هو سؤال مخضّب بالدم، وقد اجتهد مؤرخو الفكر والشرّاح بعد الفيلسوف في بيان مطويّات هذا القول وبسط ما جاء فيه مجملاً على مستويين اثنين: الأول قيمي، حيث بيّن هؤلاء أنّ النظر “الجينيالوجي” يكشف عن أنّ خلف كلّ عنصر سام أصل غير سام، وأنّ الأصل في كلّ قيمة هو قيمة غير أصلية، فالأخلاق هي مسألة قوة وعنف ورهان دم وسلطة؛ والثاني معرفي، حيث وضّح هؤلاء أنّ مقصود نيتشه هو بيان كون الفكر لا يأتي إلى الحقيقة بإرادته، فلا توافق أو تلاؤم قبلي موجود بين الفكر والعالم، وبين العقل والحقيقة، كما اعتقد كثير من المثاليين ممّن فهم الفكر باعتباره الفعل الطبيعي لملكة طبيعية cogitatio natura universalis، فالأصل في كلّ شيء هو الغرابة والنفور، والفاعل في كلّ شيء هو التدافع الخارجي وليس التوافق الداخلي، فلا شيء “يحدث” بشكل هادئ ومسالم، ولا شيء يريد أيّ شيء، فحتى الحكمة لا تتحقق ابتداء إلا بدافع “كره” أول، لهذا كان الأصل في محبّة الحكمة هو كره الحكمة”[1]misosophie.
ولا نظن أننا نخالف الواقع إن قلنا إنّ الاهتمام بالجانب الأول ومؤدياته في فكر نيتشه قد غلب على الجانب الثاني منه، إذ توجّه جلّ الاهتمام إلى العنصر القيمي والأخلاقي لما يحتويه من إحالات نقدية “عملية” وسياسية، بيد أنّ الثاني ظلّ أقلّ درساً، لأنه أكثر تجريداً وأبعد غوراً، فهو يتعلق بنقد الأسس الأعمق لمسلماتنا عن ماهية الفكر، فيهدمها كلها ويجعل بذلك كلّ مستنداتنا الأخلاقية عنه تتهاوى، إذ أنّ ما يعنيه قول مثل هذا هو أنّه ليس من ضمان قبلي لأيّ صورة نقيمها عن الفكر، فوراء كلّ تأسيس لا أساس أصلياً؛ ووراء كلّ حقيقة معتقد ظرفي (بلغة بيرس)؛ ووراء كلّ مفهوم بساط محايثة يجعله ممكناً (بلغة دولوز)؛ ووراء كلّ عقل هناك الطبيعة التي تصنعه وتحتويه وتجعل تفكيره فيها لا يكون ممكناً إلا بها (بلغة برغسون). نتائج مذهب مثل هذا كثيرة جداً وخطيرة، إذ يسقط إثرها الاعتقاد الساذج في أنّ الخطأ مسألة “خطأ”، أي كونه مجرد اعوجاج ظرفي في المسار “السليم” للفكر، خطأ ينبغي أن نرفعه باعتماد عدّة منهجية سليمة كما ذهب إلى ذلك ديكارت، إذ القضية تصير حينها أنطولوجية وليست إبستمولوجية، فحين تسقط العلة الأولى والضمان الأخير الذي هو فكرة الفيليا الأصلية، وحين تصير إرادة الإله التي تسيّر وترعى من فوق كل شيء وتوجّهه نحو غايته الأخيرة وتضمن ألاّ يحيق به مكر “الشيطان الماكر”le malin génie [2]، حين يسقط هذا الضمان الافتراضي الذي نقحمه في الفكر إقحاماً دون دليل عليه، لدواع أخلاقية خالصة، يصير ما كان بدهياً بذاته، أي “واضحاً متميزاً” بلغة ديكارت، إشكالياً وملتبساً، ويصير ما كان ضرورياً مجرّد عرض وظرف، وتصير كلّ “حقائقنا” مجرد تأويلات تتقاسمها إرادات قوة لا متناهية تستبدّ بها لتسكنها المعاني sens التي لا تفتأ تتغير في كل حين، في تاريخ لا سند له إلا كاووس العالم ورميات نرده التي يُعاد رميها في كلّ لحظة من جديد[3].
إنّ هذا النقد المعرفي لمعنى الحقيقة ولمطوياته الأخلاقية، وهذا النظر إلى التفكير باعتباره فعلاً للخارج ولقوى العالم لم يبتدئ مع نيتشه، بل سبقه مفكرون كبار، إذ نجد له أصولاً في فكر هيوم الذي جعل كلّ مسلمات العقل، بما فيها قوانين العلم، صدى لأثر المادة في النفس، إذ الأصل عنده في كلّ معارفنا هو “انطباع” المحسوس في الحسّ لا غير، كما نجد لهذا النقد صدى قوياً عند كانط في تحليله لحدود العقل، نظريّه وعمليّه، وحصره لطموحات المعرفة في حدود الظاهر، كاشفاً بهذا التحليل عن “أوهام” هذا العقل التي ينتجها هو نفسه لنفسه، ومقوّضاً تماسك الكوجيطو الديكارتي المزعوم بكشفه عن شرط الزمن الذي يسكنه وينخره من الداخل، بل إننا نجد بعض عناصر هذا النقد مع بداية الفلسفة نفسها، أي مع أفلاطون؛ فأفلاطون هو الفيلسوف الذي قدّم التفكير باعتباره فعل “تذكّر”، الأصل فيه تضارب الحسّ والذاكرة، وهو الذي بيّن ألا توافق قبلياً بين الملكات، كما يشهد بذلك الكتاب الخامس من الجمهورية[4]، فالأصل في الفكر هو اصطدام الحسّ بالفكر، اصطدام يُرغَم الفكر معه على الصعود، لترميم صدعه، نحو الذاكرة كي تسعفه، وهو ما يعني أنّ الأصل في المعرفة هو الاختلاف والعنف، والأكيد أنّ هذا الوعي المبكّر والقوي الذي حققه أفلاطون هو ما يُفسّر ولع المفكرين المعاصرين به، حتى جعلوا منه “الفارماكون”، الحليف والعدو، السمّ والترياق.
بيد أنه رغم هذا الوعي المبكر والحضور الدائم الذي كان في تاريخ الفلسفة لهذا التصوّر الخارجي عن الفكر والاختلاف عن الحقيقة، فإنّ صيغته الأتم والأبرز لم تتحقق في نظرنا إلا مع سبينوزا، وفي نظريته عن الانفعالات تحديداً، فصحيح أنّ التجريبيين قتلوا علاقة العقل بالعالم درساً، وأنّ كانط من بعدهم شرّحها تشريحاً، لكنّ نواة كلّ ذلك كانت كامنة في كتاب الإيتيقا، من حيث إنه النص الذي يلحم ما سيتفرق بعده، فيبيّن بما لا مزيد عليه وبمنطق هندسي صارم، معنى فعل “الخارج” هذا، وأثر القوة ذاك، ودلالة كون الفكر مجرد انعكاس، أي مجرد فكرة عن الفكرة، وهو ما يجعل من سبينوزا نيتشه السابق على نيتشه نفسه بلغة بعض المؤرخين، بل نيتشه “شخصياً” كما اعترف الفيلسوف الألماني نفسه حين وسم سلفه بأنه “ذلك الذي يجري دمه في عروقه”، قبل أن يلعنه بعدها، لكن مَنْ مِنَ الأسلاف لم يلعنه نيتشه عملاً بمبدئه الصارم “أعاف أن أقود كما أعاف أن أقاد”[5]؟
لا نعتقد أننا في حاجة للتذكير بالحدس الفلسفي الرئيس لفلسفة سبينوزا والذي عنه ومنه يشتق كلّ شيء، وهو الحدس القائل إنّ العالم جوهر واحد يحتوي كلّ شيء، جوهر يتحدد باعتباره علة كلّ موجود في الآن نفسه الذي يكون فيه علة ذاته. وهذا الجوهر، الذي قد نسميه أيضاً الإله أو الطبيعة[6]، يتوزّع هو نفسه في صفات لامتناهية، صفات تنحلّ هي ذاتها إلى ما لا يتناهى من الأحوال والآثار التي تملأ العالم، فلا يكون الإنسان إلا واحداً منها، فالإنسان عند سبينوزا ليس جوهراً كما تصوّره الديكارتيون، بل هو مجرد حال من أحواله، تماماً كما النبتة والحشرة والحيوان، وهو حال لا يعي من وجوده، في هذا الجوهر الكل، إلا صفتين اثنتين هما الامتداد والفكر، والعلّة في ذلك هي كونه هو ذاته يتكوّن من هاتين الصفتين فقط، فلا يمكن أن يعي إلا ما يكونه، أمّا باقي الصفات فلا يعي منها شيئاً، لأنه الجزء وهي الكل.
والحقيقة أنّ هذا التصور “الحالي” لماهيّة الإنسان عند سبينوزا، والذي يحضر فيه باعتباره مجرد جزء في عالم هو الكل، أي مجرد تعبير ظرفي عن طبيعة تخترقه، هو الأساس الذي يستند إليه لبيان كون الإنسان دائماً تابعاً ولاحقاً في وعيه وفكره وإدراكه، أي بيان أنّ فعل التفكير عنده ليس ممارسة حرّة لذات حرّة، كما اعتقد القدامى، وإنّما انفعال وعنف يخرج بأثره إلى التحقق مضطراً ومكرهاً دائماً، وهذا ما اضطلعت ببيانه نظريات كتاب الإيتيقا الكبرى المتعلقة بالانفعالات والوعي والمعاني المشتركة، وهي النظريات التي سنحاول أن نبسط بعض عناصرها في هذا البحث.
نظرية الانفعالات:
ليست الأحوال على تعدّدها اللامتناهي في نظام سبينوزا إلا انفعالات affections[7]، وهكذا فإنّ الإنسان عنده من حيث هو حال، هو انفعال من جهتين، أولاً كونه يتحدّد بمستوى معين من القدرة على التأثير والتأثر، أي كونه مقدار طاقة فيزيائية محدّدة تتحقق حسيّاً وليس ماهيّة قبلية؛ وثانياً كون الإنسان نتيجة وليس أصلاً، نتيجة لانفعالات تسبقه وتحققه، لهذا فماهيّة الإنسان تتحدّد في كونه رغبة وليس عقلاً[8]، فالإنسان ليس وعياً، بل مجرد تعبير لما ينعكس عليه من قوى العالم، والعقل بهذا المعنى لا يكون إلا مرآة هذا الانعكاس، إذ أنّ الوعي لا يدرك الموجودات التي حوله بعللها، كما يدركها الجوهر، بل يدركها فقط من جهة أثرها عليه، أي من جهة انفعاله بها[9].
لا يكتفي سبينوزا بإيراد هذا التصوّر مجملاً، بل يجتهد في حلّ عناصره باعتماد نظام هندسي صارم ودقيق في مجموع قضايا الإيتيقا وبراهينها وحواشيها، فهو يبيّن الآلية التي يتحقق بها عينيّاً هذا الوعي.
الإنسان مقدار قوة في مقابل مقادير حوله، أي استعداد للانفعال بالقوى فيزيائياً، هذا هو الأصل، وكلّ انفعال فيزيائي ينتج عنه انفعال في النفس، أي انعكاس في النفس، لأنّ ما يكون فعلاً في الجسم يكون فعلاً في النفس في الوقت نفسه، إذ لا انفصال بين الجسم والنفس، أو ما يسميه الثيولوجيون بالروح، فالانفعال هو دائماً وحدة تعبّر عن نفسها في الإنسان من حيث هو حال في صفتين: الجسم بالنسبة للامتداد والنفس بالنسبة للفكر، فالنفس ليست إلا الانفعال الفيزيائي وقد انعكس[10]، هكذا تنتج عن الانفعالات الآثار (affectio) انفعالات أحاسيس affectus)) نسميها الفكرة أو الصورة، والتي ليست إلا ما يحصّله الذهن من أثر الانفعال عليه وعلى تركيبته، فإن كان الانفعال صالحاً للحال ومزكياً لبنيته (مقوياً لوجوده ومنعشاً لرغبته) انعكس هذا الانفعال الإحساس في انفعال سالبpassion من درجة ثالثة في شكل مرح وفرح وغبطة، وإن كان هذا الانفعال الإحساس مهدّداً لترابطه ومفككاً لعناصره نتج انفعال سالب آخر على شكل حزن، أي مرّ إلى “كمال أقل”[11]، طبعاً هذا الانفعال الإحساس السالب قد ينقلب هو نفسه في اتجاه صاعد، حين يعي علّته، ليصير حبّاً في الحالة الأولى أو كراهية في الحالة الثانية، بما أنّ الحب ليس إلا فرحاً أو غبطة تعي علّتها، والكراهية هي العكس؛ ولكنّ الأهم هنا، قياساً إلى قضيتنا، هو أن نفهم أنّ الوعي والفكر لن يصير أصلاً سابقاً ثابتاً تنطلق منه النفس لبناء تصوراتها عن العالم، بل يصير مجرد “تعبير” عمّا يخترقه من قوى سابقة عليه، الوعي هنا يصير مجرد بندول ساعة يعكس حركة الرغبة، أي يعكس “حالة” الحال الداخلية التي تظل علّتها دائماً خارجها[12].
ما نستشفّه من هذا الأمر ابتداء أنّ التفكير عند سبينوزا يصير “تصويراً” لتدافع وعنف فيزيائي قبلي يتجاوزه، فالأصل في الفكر هو الانفعال بعنف الأحوال الأخرى وأثرها عليه، وهو الانفعال الذي ينعكس “سيكولوجياً” ليجعل المشاعر تولد وتتوزع بحسب وقع هذا الأثر على اللحمة الفيزيائية لا غير.
نحن هنا بعيدون جداً عن التصور الميتافيزيقي عن الفكر باعتباره فعلاً لذات حرّة واعية تتوجّه بملكاتها الطبيعية الحرّة لتحقق معرفة بالأشياء الساكنة التي تتقدم أمامها كموضوعات، في توافق وسلم تامّين يباركهما الإله الذي يرعى الكل في إطار “فيليا” كونية، كما أننا بعيدون جداً عن التصور الديكارتي عن الحقيقة التي يقدّمها باعتبارها ما يتلقاه العقل المتمكّن من مقدماته، التي يجنيها كالثمار بعد صيرورة ينتقل فيها من مقدمات “بدهية” إلى نتائج ضرورية تصير هي عينها بدهيات في إطار بناء صوري يمجّ ويستنكف من الحس والفيزياء. الحقيقة الأولى هنا تصير هي ما يطبعه عنف العالم لا غير، ولعل هذا يتوضّح أكثر عند تفصيل مفهوم الفكرة في كتاب الإيتيقا.
الفكرة والوعي:
يحدّد سبينوزا المعرفة باعتبارها “إثبات فكرة ما لذاتها في النفس”، وليس إثبات النفس لفكرة عمّا هو خارجها[13]، فأشياء العالم هي التي تثبت ذاتها فينا عنفاً وقهراً ولسنا نحن من يعمد إلى تمثلها والحكم عليها، فالوعي هو ازدواج للفكرة ذاتها من حيث هي تجسيد لشيء في صفة (الواقع الموضوعي لفكرة)، إذ أنّ الفكرة التي هي تجسيد لموجود في صفة مختلفة عنها (الامتداد) هي ذاتها ما يوجد في صفة أخرى هي الفكر (الواقع الصوري للفكرة)، وهكذا فإنّ الوعي لا يكون إلا الانعكاس اللامتناهي للفكرة بما أنها تحضر فينا باعتبارها هي ذاتها موضوعاً لفكرة تمثّلها، كلّ هذا يجعل الوعي غارقاً بكُليّته في لا وعي أنطولوجي قبلي هو الذي يجعله ممكناً[14]، فالفكر ليس الميزة الأخلاقية لذات، بل الانعكاس الفيزيائي لفكرة على النفس باعتماد شروطها هي ذاتها، فالوعي هو دائماً تابع للفكرة التي هو وعي بها ولا يتجاوز حدود هذه الفكرة، فالأصل هو الفكرة التي تجسّد انعكاس الشيء، والفرع هو الوعي الذي يجسّد انعكاس فكرة الشيء علينا، لهذا فنحن لا نعي الفكر بعلّته كما هو في الجوهر، أي من حيث هو صفة تتجاوزنا نحن كأحوال، بل نعي فقط الأفكار التي تمكننا منها انفعالاتنا في الشروط التي تكون في مكنتنا، أي ما تحصّله أحاسيسنا التي هي أحوال للفكر في وعينا الذي يظل محكوماً كما أسلفنا بشروط الحال، وهي الشروط التي تمثل السبب وراء وهم الإرادة الحرّة التي نعتقدها، فنحن لأننا نجهل علل الأشياء، ولا نعي إلا أثرها علينا فإننا نتصور أنّ هذا الوعي “حر” في إدراك الأشياء، بل نجعل من هذا الوعي المشروط علة تفسّر وجود هذه الأشياء ذاتها، فنذهب إلى اختلاق علل غائية للوقائع الفيزيائية، فنقول مثلاً إنّ فكرنا يدرك بحرية تامة أنّ المطر يسقط لأجلنا، حتى ينبت الزرع الذي نتغذى عليه، هكذا فإننا نقلب كلّ شيء فنجعل من مفعول سقوط المطر علينا (الكلأ والزرع) هو العلة من وجود المطر ابتداء، ونفترض أننا نتوصل إلى ذلك بقياس عقلي واضح، والحال أنّ سقوط المطر واقع فيزيائي سابق علينا، وأنّ عليتنا السببية ما كانت ممكنة إلا بالنظر لانفعالنا الإيجابي بهذا الفعل[15]، وهذا الأمر هو أيضاً السبب في كلّ تقويماتنا الأخلاقية للوجود وتقسيماتنا للعالم إلى خير وشر، ونفع وضرر، والحال أنّ العالم هو العالم، وأحكامنا عنه لا تلزمنا إلا نحن، لأننا لا نعي بها إلا في حدود مستوى انفعالنا بها (الجسم) وأثر هذا الانفعال على أحاسيسنا (النفس) قياساً إلى كون هذا الانفعال يزكي بقاءنا واستمرارنا كمقادير فيزيائية حيّة، حينها نسميه خيراً (سقوط المطر) أو كون هذا الانفعال يهدّد بحل ترابطاتنا وموتنا فنسميه شراً (الجفاف). فكما أنه ليس بمكنتنا أن نكون علة أفعالنا، فليس بمكنتنا أن نكون علة فهمنا، فالفهم ليس إلا ما ينتج عن الإوالية الذاتيّة النفسيّة التي تعكس إوالية ماديّة سابقة عليها[16].
بحسب هذا التصور لا يصير للإنسان أي دور في وعيه بذاته والعالم، فكلّ هذا فعل للإله أو للجوهر بذاته، فالفكر ليس فعلاً واعياً نقدم عليه في لحظة نختارها، بل هو دفع من الخارج بسبب علة ترد هي نفسها إلى علة أخرى وفق تسلسل ينتهي إلى العلة الأخيرة التي تفعل وفق ذاتها وهي الجوهر، حتى وإن كان هذا الفعل لا يتحقق إلا وفق وجوب وضرورة، فالحريّة الوحيدة الممكنة في فكر سبينوزا هي الفعل وفق ما تلزمه الضرورة نفسها، أي وفق ما يتوجّب على العلة الأولى باعتبارها تفعل وفق طبيعتها الضرورية دائماً، لهذا فالحريّة ليست إلا الاسم الآخر للضرورة، حتى بالنسبة للجوهر[17].
تمثل هذه الأفكار، كما تمّت صياغتها في نص الإيتيقا وفي نظرية الانفعالات والمعاني المشتركة والوعي وما ينتج عنها، الأرضية الصلبة في نظرنا لكلّ ما سيتأسس عليه فكر الخارج وحلّ ميتافيزيقا الحضور والوعي كما ستتجسد بعد ذلك في القرون التالية، سواء مع التجريبية الإنجليزية أو المنظورية الألمانية وحتى البراغماتية الأمريكية في وجهها الفلسفي الخالص، بل حتى هايدغر في نظريته عن الحقيقة باعتبارها فعلاً للوجود نفسه، فلا أحد قبل سبينوزا استطاع أن يتحرّر من وهم الحقيقة كفعل حرٍ للذات الخيّرة المريدة التي تتوجّه إلى العالم بسكون لتدركه وتتبينه، فكما أنّ كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة كان الأصل الفلسفي العميق لكل نظريات العقد الاجتماعي[18]، حيث حدّد الفيلسوف بوضوح أشكال الترابط بين حريّة العقيدة وحريّة التفلسف، وأسّس لمفاهيم القانون الطبيعي والحق الطبيعي ولمعاني التسامح والحريّة سياسياً، فإنّ كتاب الإيتيقا يظلّ في نظرنا، وكما يذهب إلى ذلك دارسون وفلاسفة كبار، المدخلَ الأهمّ والأعمق لكلّ الفكر “الحيوي” اللاحق. صحيح أنّ سبينوزا لا يُذكر كثيراً، وإن ذُكر فلا يكون إلا باعتباره أحد كبار الديكارتيين، لكنّ العارفين بنصوص الرجل يعلمون أنّ هذا اختزال خاطئ دأبت عليه بعض مدارس تاريخ الفلسفة الكلاسيكية لأسباب تحتاج هي نفسها لتاريخ خاص، فالتاريخ ليس مبيناً بذاته ولا “حقيقة” خالصة بعينه، بل هو عينه محل “تأويلات” تسكنه معانٍ بحسب إرادات القوّة المتعاقبة، لهذا كانت الجينيالوجيا التي تحفر عن أصول هذه القوى هي التاريخ بحق.
* نشرت هذه المادة ضمن مجلة “يتفكرون”، العدد 5، خريف 2015
[1] Gilles Deleuze, Différence et répétition, édition p.u.f; 2003; paris. pp: 181-182
[2] انظر بهذا الخصوص بداية التأمل الثاني لديكارت:
René Descartes, méditations métaphysique; édition p.u.f; quadrige, 1998
في العربية نعتمد ترجمة عثمان أمين، المركز القومي للترجمة، 2009، في ما يخصّ مسألة الشيطان الماكر، انظر مثلاً الصفحات 68 و69، أو 78- 79
[3] Friedrich Nietzsche, le gai savoir; § 341
[4] بخصوص هذه القضية انظر الجمهورية، مثلاً الكتاب الخامس، الصفحات 359-365 عن العلم والظن، “الجمهورية”، دراسة وترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، القاهرة 2003
[5] Friederich Nietzsche, le gai savoir, le solitaire; 33
[6] Deus sive natura، ومعناها الإله أو الطبيعة، وقد وردت ثلاث مرات في نصّ سبينوزا في الكتاب الرابع من الإيتيقا، في المقدمة وفي برهان القضية الرابعة، نعتمد في كلّ هذا البحث كمرجع على الترجمة الفرنسية للأعمال الكاملة لسبينوزا، الصادرة عن دار غاليمار
Spinoza, œuvres complétes, texte traduit, présenté et annoté par Roland Caillois, Madelaine Francés et Robert Misrahi, Gallimard, 1954; tirage; Paris. 2012
وفي الترجمة العربية نعتمد ترجمة جلال الدين سعيد، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، وسنعتمد الإحالة بأرقام القضايا والكتب كما هو معمول به في الترقيم الدولي للدراسات السبينوزية.
[7] الإيتيقا، الكتاب الثاني، القضية الخامسة.
[8] نفسه، الكتاب الثالث، تعريف الانفعالات، التعريف رقم 1 وشرحه، في المرجع الفرنسي الصفحة 469
[9] نفسه، الكتاب الثاني، القضايا 11، 12، 13، مع لوازمها وبراهينها وما تلاها.
[10] يورد سبينوزا هذه القضية في مواقع عديدة من متنه، في الكتاب الثاني من الإيتيقا، القضية 17، لكن أيضا في رسالة في إصلاح العقل، انظر مثلاً في الأعمال الكاملة المشار إليها أعلاه الصفحات 110 -112
[11] انظر القضايا الأولى للكتاب الثالث، ثم خصوصاً تعريف الانفعالات في نهاية الكتاب، التعريف الثالث مثلاً.
[12] الإيتيقا، الكتاب الثاني، القضية 16 وما بعدها.
[13] انظر القضايا الأولى من الكتاب الثاني للإيتيقا، ثم انظر الرسالة القصيرة، الترجمة الفرنسية في الأعمال الكاملة المشار إليها أعلاه، الكتاب الثاني، الفصل السادس عشر، الفقرة 5 حيث يقول: “لسنا نحن من يؤكد أو ينفي شيئاً عن موجود ما، بل إنّ هذا الموجود نفسه هو الذي ينفي أو يثبت فينا شيئاً عن ذاته” ص 68 من الترجمة المذكورة.
[14] يفسّر هذا الأمر نفور عدد من السبينوزيين الكبار من المنحى الاختزالي السيكولوجي لمعنى اللاوعي كما يقدّمه التحليل النفسي، وهذا مدخل رئيس لفهم نقد مؤرخ الفلسفة والفيلسوف جيل دولوز وفيلكس غواتاري للتحليل النفسي في نص “الرأسمالية والفصام” بجزأيه:
L’anti-oedipe, Éditions de Minuit, paris; 1972
Mille Plateaux, Éditions de Minuit, paris; 1980
[15] تعرّض سبينوزا لهذه المسألة بتفصيل في الحاشية الشهيرة للكتاب الأول من الإيتيقا والمعنونة بـ”عن الإله”.
[16] انظر مثلاً رسالة في إصلاح العقل الواردة سابقاً، الفقرة 85، وبخصوص التوالي الذاتي للأفكار في النفس انظر الإيتيقا، الكتاب الثاني، القضية 7 وما بعدها.
[17] الإيتيقا، الكتاب الأول، القضية 17 وما بعدها، ثم حاشية الكتاب الأول المذكورة حيث ينتقد التصور الإنسي عن الإله، وكذلك الرسالة رقم 58، LVIII إلى شولر، schuller.
[18] هناك إعادة نظر جذرية اليوم في الدراسات الفلسفية السياسية حول قيمة سبينوزا ودوره في التأسيس للفكر السياسي الحديث للقرن السابع عشر، بحيث يذهب كثير من الدارسين إلى أنّ قيمة كتب من مثل الرسالة السياسية ورسالة في اللاهوت والسياسة لم يهتم بها لاعتبارات متعلقة بسمعة سبينوزا خلال القرن السابع عشر حيث كان ذكر اسمه في التداول العام محرّماً، هذا ما يذهب إليه مثلاً روبير ميسراحي ومورو وكذلك كايوا ودولوز، انظر بهذا الصدد مقدمة الترجمة الفرنسية للأعمال الكاملة، ثم الفصل الأول والخامس من كتاب دولوز:
Spinoza philosophie pratique, Éd de Minuit, paris 1981,
وهو الكتاب الذي نعمل على إصدار ترجمته العربية قريباً.
باحث وأكاديمي مغربي، يشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس بالرباط، من مؤلفاته: “فلسفة جيل دولوز في الوجود والاختلاف” الصادر سنة 2012، وله العديد من المقالات المنشورة في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، من بينها: “الهوية المؤجلة السياسية والمواطنة “الخارجية عند أرسطو”.