التأويل والترجمة في أفق الغيرية


التأويل والترجمة في أفق الغيرية

1- الترجمة في أفق التأويل

ليست الترجمة ممكنة إلا لأنها تأويل يتمّ من خلاله تجاوز الهوة الفاصلة بين اللغات؛ وذلك بنقل عمل الغير في عالم لغة ما، إلى عالم لغة أخرى؛ والأكثر من ذلك، أن الترجمة ممكنة حتى في اللغة الواحدة عينها، إذ لو كانت الترجمة غير ممكنة في اللغة عينها، لما كانت هناك حاجة لتأويل هذه اللغة عينها ضمن حدود مجالها التداولي الخاص؛ أي لما كان هناك تعبير قط، من حيث إن التعبير ترجمة للعالم بامتياز تتم على نحو مباشر. لذلك نحن نحتاج في كل لحظة وحين أن نؤول معاني وجودنا، فنترجمها إلى تعبير؛ والإنسان ليس هو ما يعبر عنه فقط، بل هو بحد ذاته تعبير. ومعنى ذلك أن التعبير ليس مجرد وسيلة لترجمة مشاعر الإنسان المتدفقة، وتمثلاته الذهنية، وحدوساته الشخصية، وأفكاره العقلية، ومواقفه المستجدة، إلى سلوك لغوي بوصفه معبراً عنه؛ أي إلى لغة للتواصل تعبر عن مستوى إدراكه للعالم فقط، بل إن التعبير أيضاً هو صفة جوهرية للإنسان، حيث إن كينونته لا تنكشف في العالم إلا كتعبير، وبما هي كذلك، فإنها تعبر بالمقابل عن العالم برمته، بالمفهوم اللايبنتيسي، وهو ما سنعود له لاحقاً.

بناء على ذلك، يمكننا على سبيل المدخل، أن نفترض أن الإنسان – بوصفه تعبيراً- هو كائن تأويلي بامتياز، ليس لأنه يؤول بقدر الفهم فقط، بل لأنه هو بحد ذاته تأويل أيضاً، أو تعبير عن نمط كينونته الخاص في العالم، وعن العالم جملة. وهذا لا يعني كونه يطوي معنى الوجود في ذاته فقط، بل لكونه يطوي في ذاته العالم الذي ينطوي فيه هو أيضاً؛ وما دام يدخل في صلب علاقة يطوي من خلالها العالم في ذاته من جهة، وينطوي فيها من جهة أخرى داخل العالم، فإنه لا يصير مجرد كائن وحسب، بل يصير كائن التأويل أو التعبير الذي ينتج ويشكل أنماط الوجود، بوصفها تأويليات للعيش. وهذه التأويليات ليست مجرد تأويلات للـفهم، بل هي أكثر من ذلك، إذ تمضي أبعد من الفهم، إلى اختراق أفق الزمان؛ أي إنها تستجلب المستقبل بقدر التأويل الذي تقدر علي إعطائه. ولهذا يكون شكل الكينونة المستجلب للحاضر طريقة فريدة لتأويل العالم كتاريخ ما يفتأ يتجدد، وليس التجدد سوى فعل للتأويل؛ ومعناه أن تاريخ التأويل، هو تأويل للتاريخ؛ إذ إن التاريخ عينه يولد في صلب التأويل. إنه لا يبدأ إلا في اللحظة التي يشرع فيها الإنسان مؤولاً وجوده ككائن من أجل الكينونة، وليست الكينونة بهذا المعنى مجرد معطى لمحض الوجود، بل هي فعل ينقل معطى الوجود إلى نمط خاص للوجود؛ أي لتاريخ يتشكل في كل مرة، كمنظور ليس بفهم ومن أجل فهم الوجود فحسب، بل من أجل تأسيس هذا الوجود ثانية في أفق زمان الكينونة، وهذا التأسيس بوصفه فهماً وفعلاً في ذات الوقت؛ أي بما هو فهم -بالفعل- للفعل، وفعل للفهم، كتعبير عن تأويل تأسيسي، هو ما يمكن تسميته بالترجمة بمعناها الأنتولوجي الأول والأخير. وهذا المعنى يتعلق بالترجمة كتأسيس ثان وتال للوجود، وما يتأسس ثانية وبَعدياً ليس هو الوجود البراني المعطى بكيفية مطلقة، بل هو الوجود كما ينكشف لأفق الفهم، أو هو الظاهرة المنكشفة للـفهم، كعالم هو بمثابة فضاء للكينونة المشتركة. ومعناه أن العالم هو المعطى الأساسي للترجمة كتأسيس يجدّد انعطاء الوجود للفهم. ربما يسعفنا هذا المنظور في فهم الترجمة على الحرف الثاني؛ أي بمعناها الوظيفي، أو بما هي تحويل ونقل يجدد هذا العالم نفسه المعطى للكينونة، من خلال الأثر الإنساني، كعمل للغير. فإن مدار الترجمة إذاً سواء بالمعنى الأنتولوجي الأول، أو بالمعنى الثاني؛ أي بمعنى الاحتياج الأنتولوجي للغير، هو الكينونة؛ أي إنها من جهة كونها علاقة مباشرة بالوجود، فإنما تعبر عن فعل الكائن في علاقته بالوجود، ومن خلالها ما يفتأ يترجم هذه العلاقة إلى كينونته الخاصة المتعينة في الزمان والمكان. وبتعبير أدق، فالترجمة بهذا المعنى هي بمثابة اقتصاد سياسي للـفهم الإنساني بعامة، وهذا الفهم يتعين ككينونة خاصة، تتحقق وتنكشف من خلال فعل الـ «يكون» بوصفه تعبيراً عن عمل الفهم، وما يكون ليس سوى هذا الذي يوجد في الوجود، كباقي الموجودات، غير أنه يتميز عنها بكونه وحده يكوّن كونه الخاص، فيصير مقتدراً على ترجمة الوجود والذات إلى كينونة من خلال التلقي والفهم والإنجاز.

أما من جهة كونها علاقة توسطية بالغير، وفق مقتضى الاحتياج الأنتولوجي للغير، فإنما تعبر عن الغيرية بوصفها الدلالة المعبرة عن الاستضافة ولقاء الآخر، بوصفه الغريب الذي تكون صفة الغرابة فيه باعثة على الفهم. ولذلك تكون الكينونة الخاصة في أمس الحاجة إلى فهم كينونة الغريب، سواء من خلال استضافته ولقائه، بهدف تجسير علاقة ترجمية مباشرة، أو من خلال نقل عمله وأثره. وفي كلتا الحالتين تكون الترجمة وسيلة وغاية في الآن معاً؛ أي إنها وسيلة للتفاهم أو لسوء التفاهم مع الغريب، بحسب ما تقتضيه شروط سياق العلاقات البشرية، وهي غاية أيضاً، بمقتضى الاحتياج الأنتولوجي للغير الذي يدخل في صميم أفق المشروع الغيري الغائي للكينونة، أو في أفقها الحضاري؛ بمعنى أن الباعث على الترجمة ليس هو مجرد استعمال أثر الغير واستهلاكه المعنوي، بل هو أيضاً التأسيس لمشروع تجديد الكينونة، أو هو وضع الكينونة الخاصة على محك الغيرية، بوصفها منبعا لتاريخ جديد. ولهذا تقترن مشاريع الترجمة دائماً، بتأويل الكينونة ذاتها، من خلال تجاوز القصور الذاتي الذي ينكشف في مرآة الغير، من خلال التأثر والتلاقح. وليست الترجمة من خلال ذلك سوى لقاح بالغيرية، بل هي الغيرية عينها التي تجعل أيّ عمل إنساني ذي قيمة، متاحاً بكيفية ما للإنسانية كلها، وليس حكراً على الإرادة التي أنتجته. يشير لفينياس في هذا الصدد إلى فكرة مهمة، وهي تتمثل في أن كل عمل إنساني ينفصل عن الإرادة التي أنتجته، وهكذا يحل في إرادة أخرى؛ أي «إن الانخراط في إرادة برانية، ينتج بتوسط العمل الذي ينفصل عن عامله، عن نواياه وعن تملكه ويحل بإرادة أخرى، وأن العمل الذي يجلب ما يكون إلى تملكنا، يتنازل تلقائياً، فيسلم ذاته، بمقتضى سيادة سلطته عينها، للغير بطريقة ما»[1]. وهذه الطريقة ليست سوى الترجمة كتأويل لعمل الغير، بكيفية لامتناهية، ما دام أن كل عمل يعرض في أفق غيرية كل ذات أخرى؛ أي من خلال توجه هو بمثابة «حركة تمضي خارج المماثل، نحو آخر على الإطلاق… وتوجه يمضي طوعا من المماثل نحو الآخر هو العمل (l’œuvre)»[2]. والحال أن هذه «الحركة لا ترجع قط نحو المماثل (le même)»[3]؛ وذلك لأن العمل إنما يكون من أجل زمن يتعدى زمان صاحب العمل؛ لأنه «عبور نحو زمان الآخر»[4]. يمكننا أن نستنتج من خلال ذلك أن الترجمة تنشأ عن هذه الحركة أو هذا التوجه نحو الآخر، ولذلك فهي ليست ممكنة فحسب، بل هي شرط إمكان كل علاقة بالغير، حتى وهي تنشأ عن هذه العلاقة وفيها. إذن، فإن السؤال عن ماهية الترجمة هو أولاً وقبل كل شيء سؤال عن إمكانها، وليس هذا السؤال هو فقط: «هل الترجمة ممكنة؟»، بل هو أيضاً: «كيف تغدو الترجمة ممكنة؟»

2- الترجمة والتأويل على ضوء السؤال الميتافيزيقي

إذا كانت الترجمة تجعل كل علاقة ممكنة بوصفها علاقة غيرية بامتياز، فهل الترجمة عينها ممكنة؟ وإذا كانت على سبيل الافتراض كذلك، فكيف تغدو الترجمة ممكنة؟ لا مراء في أن صيغة هذا السؤال ميتافيزيقية كانطية؛ أي إنها لا تبحث عن أساس الوجود شأن الميتافيزيقا العامة، بل في أسس المعرفة ومبادئها القبلية، وفي شروط إمكانها، بل وفق ميتافيزيقا متعالية.

يبدو أن للصيغة الأولى لهذا السؤال علاقة بالسؤال عن الشيء «لماذا ثمة شيء بدلاً من لا شيء؟ مع فارق بسيط، ولكنه جوهري يتمثل في كون هذا السؤال الأخير هو سؤال عن علة الشيء؛ أي إنه يبحث في أساس الوجود عينه، بينما يبحث السؤال الأول عن الشيء من جهة الإمكان. ومع ذلك يحق لنا أن نربط بينهما كونهما متعالقين. وبناء على ذلك وقبل البحث في إمكان الترجمة وشروط هذا الإمكان، سنعمد إلى طرح هذا السؤال بكيفية لايبنتسية: لماذا ثمة شيء للترجمة، بدلاً من عدم وجود شيء لا يترجم؟ إذن يمكننا أن نؤول الترجمة على ضوء مبدأ العلة الكافية (Raison suffisante) ومفاده أن «لا شيء يحدث بلا علة»؛ ومعنى ذلك أن «كل ما يحدث في الكون يندرج ضمن معقولية ما، تبرر وجوده وتؤسسه»[5]؛ أي وفق ما يسميه لايبنتس بالمبدأ الكبير الذي يقرر بأن كل ما يوجد يستند إلى هذه العلة الكافية التي تفسر لم يوجد بدلاً من عدم وجوده، ولم وجد هذا الشيء على هذا النحو وليس على نحو آخر، وبعد التسليم بهذا المبدأ يحق لنا فيما يقول لايبنتس: «أن نسأل لماذا يوجد هذا الشيء بدلاً من أن لا يوجد شيء بتاتاً؟ إذ إن عدم وجود الشيء أبسط وأسهل من وجوده، ثم لو فرضنا أن هناك أشياء يجب أن توجد، علينا أن نعلل لماذا هي توجد على وجه ما عوض أن توجد على وجه آخر»[6].

وإذا كان هذا السؤال، كما يرى هايدغر بمثابة «السؤال من حيث المكانة الفلسفية بين الأسئلة الأخرى؛ لأنه بعيد المدى في إشارته، ولأنه أكثر الأسئلة الفلسفية عمقاً، ولأنه الأكثر أصالة وجوهرية من بين كل الأسئلة الأخرى»[7]. فهل يمكن لهذا السؤال أن يرشدنا إلى الأساس الذي تنبع منه الترجمة، وإلى الكيفية التي يظهر فيها أي شيء موجود على هيئته؟ وقبل ذلك، أليس مبدأ العلة الكافية عينه، بوصفه مبدأ كلّياً وعظيماً، هو الترجمة الكبرى للوجود، ما دام يقول كل شيء، وما دام كذلك أن أي شيء ينقال فيه على نحو ما بصفته المتعينة والدالة على أحواله؟ أي إن المسألة لا تتعلق فقط بإيجاد علة لكل ما يوجد، بل تتعلق بأن «لكل موجود علة ما وذلك من حيث موجوديته، وموجوديته على ما هو عليه»[8].

لذلك علينا أن ننتبه إلى هذا المبدأ العظيم، بوصفه منبع كل تأويل للوجود، تتم على أساسه ترجمة كل موجود بحسب هيئة وجوده، وهذا واضح في الصيغة التي حرص لايبنتس على إلحاقها بالسؤال الكبير، والتي تطرح علينا تساؤلا لا يقل أهمية، ومفاده، أنه في حال افتراضنا أن لكل شيء علة، بمقتضى وجوده، فيجب علينا، أن نعلل كذلك، لماذا يوجد هذا الشيء على هذا الوجه، عوض أن يوجد على وجه آخر؟ هذا التوضيح يرشدنا إلى القراءة الثالثة لمبدأ، إذا صحت هذه القراءة، فالقراءة الأولى تقودنا إلى العلة التي نبرر من خلالها ما يتعين في الوجود، حيث كل شيء يوجد بمقتضى وجوده المشمول بالعلة التي تفسر الحدوث؛ أما القراءة الثانية الهايدغرية، فهي التي تعتبر أن «العلة والوجود متماسكان ومتحدان، بوصفهما الشيء نفسه، وهكذا يصير مبدأ العلة هو حكاية الوجود، وهكذا فالعلة تعطينا شيئاً لنفهمه، كونها تحكي انطلاقاً من هذا الشيء»[9]؛ غير أن فهم هذه القراءة للأساس، لا يقود في نهاية التحليل إلا للعبة الوجود بوصفه مؤسساً لا أساس له. إذ إن العلة المفترض فيها تؤسس الوجود تظل بالنسبة إلى هايدغر بلا علة. والأمر هنا يفضي إلى لعبة قد تتطلب منا حين ندرك حيثياتها ودوافعها، الدخول إليها واللعب فيها. أما القراءة الثالثة، فهي تعتبر، على طريقة لايبنتس نفسها، أن مبدأ العلة الكافية، هو مبدأ كل شيء، هو مبدأ يطوي في ذاته الوجود وعلة أي موجود يوجد؛ أي إنه يطوي الأساس والتأسيس، وتعليل كل تأسيس، ومادام كذلك، فهو بمثابة التأويل العظيم، الذي يطوي في ذاته وجهة نظر كل موجود يعبر عن العالم كله بكيفيته الخاصة. ولهذا يؤكد لايبنتس على تعليل وجود الموجود، انطلاقاً من وجوده على هذا النحو وليس ذاك. وهذا التعليل هو الذي يسمح بإمكانية تفسير الوجود من وجهة نظر العالم، بوصفها تأويلاً كافياً، حيث إن كل جوهر فرد يعبر فيه، يعبر عن الكون برمته، على نحو ما ورد في القضية التاسعة من (المقالة في الميتافيزيقا): «في أن كل جوهر فرد يعبر عن جملة الكون على طريقته، وفي أن كل الأحداث التي ستقع له متضمنة في تصوره ومعها جميع ظروفها وكل سلسلة الأشياء الخارجية»[10].

إذا كان مبدأ العلة يعرض كتأويل للوجود، كونه منطويا عليه، فإنه من جهة أخرى، يقدم ذاته كترجمة تظهر كل موجود على وجهه الخاص والمتفرد؛ أي على النحو الذي يكون عليه مبرزاً صفته التي تدل على أحواله، والتي تميزه عن أي موجود آخر، ولذلك فهو يحكي عن التعددية الملازمة لطبيعة الوجود، إذ لا تتطابق الموجودات إلا في اشتراك الوجود، ولكنها تتمايز من حيث كونها أشياء متفردة تحوز صفات وأحوال، وما دامت كذلك، فإنها تعبر عن ذاتها من خلال لغة خاصة؛ ومعناه أن مبدأ العلة الكافية يطوي في ذاته الترجمة الأولى للوجود، والتي تترجم فيها العلة الوجود بوصفها الأساس الذي ينقل فعل الحدوث، كما يطوي كذلك في ذاته أساس التعبير كمنبع للغة أي كموجود. وما دام كل شيء متفردا قابلا للتعليل، أو للتأويل الذي يكشف خصائصه، فهذا معناه أيضاً أن الموجود، في تعبيره عن ذاته وعن العالم بلغته الخاصة، هو قابل للترجمة، حتى ولو كان من غير نوافذ شأن المونادات؛ إذ إنه بطبيعته، كجوهر فردي، موجود من أجل التعبير؛ ذلك أن «كل جوهر عبارة عن عالم برمته، وهو بمثابة مرآة لله أو مرآة الكون برمته، يعبر عن كليهما بطريقته تقريباً كما هو حال المدينة نفسها تتمثل بأشكال مختلفة وفقا لمواضع المشاهد. هكذا يتعدد الكون على نحو ما تتعدد الجواهر. وتتضاعف عظمة الله أيضاً بكم التمثلات المختلفة لخلقه، بل يمكننا القول إن كل جوهر يحمل في ذاته بصورة ما علامة حكمة الله اللامتناهية وقدرته الكلية، ويحاكيه قدر ما أمكنه؛ ذلك أن الجوهر يعبر، وإن بغموض، عن كل ما يحدث في الكون ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وفي ذلك التعبير شبه بالإدراك أو بالمعرفة اللامتناهية»[11]. في هذا المنظور الفريد يغدو التعبير تأويلاً كافياً، لا بمقتضى كونه مجرد تعبير عن وجهة نظر خاصة بالفرد فقط، بل لكون الجوهر يطابق وجهة نظره التي تعبر عن كل العالم بكيفيته الخاصة، والحال أن «تعبير الجوهر عن الكون بأسره، ليس حاصلاً بفعل تأثير خارجي، ولكن بفعل تلقائية داخلية تجعل الجوهر يجد في نفسه آثار كل ما يوجد في الخارج»[12].

بعبارة أخرى، إن كل تأويل لا ينشأ إلا في صلب علاقة الموجود الفرد بالوجود ككل وبالموجودات الفردية الأخرى؛ أي في صلب «التعبير الذي يربط بين الوحدة والكثرة، بين الخاص والعام، بين الفردي والكوني؛ وذلك لأن شيئاً ما يعبر عن شيء آخر، حين توجد علاقة ثابتة ومضبوطة بين ما يمكن أن يقال عن الأول وما يمكن أن يقال عن الثاني»[13].

بناء على ما تقدم، يمكننا أن نستنتج أن التأويل يبدأ في اللحظة التي يفسر من خلالها مبدأ العلة الكافية كل ما يوجد بمقتضى الوجود؛ أي بحسب وجود الشيء عينه، ووفق ما يوجد عليه. وهذا التأويل ينكشف كحكاية كبرى وكسيرة صغرى، كحكاية كبرى تفسر كل الوجود، وكسيرة صغرى تعبر عن وجهة نظر خاصة، غير أنها ليست صغيرة إلا لأنها تحكي وجودا خاصا، إلا أن حكايتها الصغرى تطوي في ذاتها حكاية العالم كله. وفي هذا العمق، نستكشف بأن علاقة التأويل هي نفسها حكاية عن الترجمة، أو بعبارة أخرى ليست الترجمة ممكنة من غير علاقة يعبر من خلالها الكائن عن نفسه وغيره وعن الكون. وهذا الكائن لا يعبر عن العالم كله، إلا لأنه مرآة ينكشف فيها الكون. فمن حيث إنه يعبر عن نفسه، فلأنه هو نفسه عالم، بحد كونه جوهراً فردياً، ومن حيث إنه يعبر عن الغير، فلأنه يوجد ضمن علاقة ثابتة ومضبوطة تجعله حتى وإن كان جوهراً من غير نوافذ يتمرأى في الغير، ويتمرأى الغير فيه، وبما أنه كذلك فإنه من جهة أخرى مرآة لكل العالم، وهو ينطوي في كل هذه اللحظات الثلاث، على حكاية الوجود، التي يحكيها مبدأ العلة الكافية الذي يبدأ معه تأويل الوجود، كما يصير معه العالم مترجماً في مرآة الكائن.

إن مبدأ العلة الكافية هو مبدأ الترجمة العظيم؛ وذلك لأنه في الوقت الذي يخبرنا فيه بأن لا شيء يوجد من غير علة، فإنه يقول لنا بصيغة أخرى، أن لا شيء يوجد بلا ترجمة؛ ذلك أن العلة تعلل وتفسر أو بالأحرى تؤول. أما الترجمة، فتعبر بوصفها مرآة الوجود التي تنعكس فيها العلة ذاتها، من خلال كل ذات هي بمثابة وجهة نظر، بل من خلال ذات لايبنتس كعالم في حد ذاته، يعبر عن كل الكون بأسره، بكيفيته الخاصة؛ أي من خلال مبدأ العلة الكافية؛ ومعناه أن هذا المبدأ ليس مجرد تفسير للكيفية التي تتم على أساسها ترجمة الوجود، بل هو بحد ذاته ترجمة للكون بأسره أيضاً. فقط هناك شيء واحد غير قابل للترجمة في هذا المبدأ بحسب وجهة نظر هايدغر؛ أي بحسب القراءة الثانية، ألا وهو العلة عينها لسبب بسيط كونها بلا علة أي بلا أصل، بلا وجود، ومعناه أن ما يؤسس ذاته؛ أي حتى ولو كان علة ذاته (causa sui)، هو بلا أصل، ومعناه أنه غير قابل للترجمة، إذ إن الترجمة تقتضي الأصل، وبهذا المعنى تغدو الترجمة مستحيلة، ولهذا فإن السؤال عن العلة لا جواب له، فإذا كانت العلة «تعني الوجود، ومعنى الوجود هو العلة، والعلة هي الوجود فإننا ندور، فلا نجد منفذاً أمامنا؛ ذلك لأننا لا نلتقط دلالة الوجود أو دلالة العلة. وحتى إذا قلنا إن حكاية الوجود تجيب عن سؤال حول معنى الوجود، فإن هذا الجواب يبقى، بانتظار مزيد من الإيضاح، باباً مقفلاً، ويبقى مفتاح اللغز ضائعاً ونبقى خارج دلالة الوجود»[14]. وهذه المعضلة ليست معضلة لايبنتس وحده، فقد استطاع لايبنتس على الأقل أن ينسجم مع منظوره للوجود، أن يقدم من خلال مبدأ العلة الكافية ترجمة للعالم الكبير، تنكشف كمعقولية تضمن الانسجام داخل ما يتصوره كأفضل عالم ممكن من بين العوالم الممكنة، بل هي معضلة هايدغر أيضاً، أو هي معضلة نسيان الوجود، هذا الذي يتعذر ترجمته بما هو وجود، وهي معضلتنا جميعاً ككائنات بشرية لا تملك أن تفكر في الوجود سوى من جهة الموجود. ربما هناك طريقة أخرى للتفكير، ولكنها تظل بعيدة، ولهذا السبب ربما لم نفكر بعد. ومعنى هذا أن الترجمة تندرج ضمن السؤال الكبير عن الوجود، ولهذا فهي من بين أكثر القضايا الميتافيزيقية مدعاة للتأمل.

3- في إمكان الترجمة

عن سؤال «هل الترجمة ممكنة؟ تجيب الميتافيزيقا -حسب عبد السلام بنعبد العالي- بالإيجاب، من أفلاطون إلى هيغل، مروراً بلايبنتس، فما دام المهم في الكتابة هو المعنى، المعنى السابق على الكتابة واللغة، فبإمكانه أن ينتقل من لغة إلى أخرى، من دال إلى آخر. والترجمة كنقل لمحتوى دلالي، من شكل في الدلالة إلى آخر، عملية ممكنة. صحيح أنها تطرح بعض الصعوبات، ما دامت تريد أن تضع نصاً يقول ‘الشيء نفسه’، ويرمي إلى ‘الغاية نفسها’، ولكنها عملية ممكنة»[15].

ما دمنا بصدد لايبنتس، يمكننا أن نضيف أن إمكانية الترجمة مشروطة بعلاقة التماكن (compossibilité)، إذ «أن العائق الوحيد لعدم تحقق كل ممكن، هو عدم تماكن بعض الممكنات، حيث أن كل الممكنات ليست متماكنة قط، على حد تعبير لايبنتس، وهذا يعني أن التماكن ليس مجرد علاقة ثنائية، بل بإمكانه الربط بين حد ما بمجموعة من الحدود»[16]. هكذا يغدو الشيء الممكن متحققاً بقدر ما يتضمن في ذاته قدرة على التحقق، لذا هو بهذه القدرة متماكن (compossible)؛ «أي إنه قد وصل إلى درجة من الكمال تجعله خليقاً بالتحقق»[17]. هذا يوضح مسألة جوهرية، وهو أنه لا يكفي أن يكون الشيء ممكناً لكي يوجد، فلا بد لهذا الشيء أن يكون متماكناً مع أشياء أخرى تؤسس العالم الواقعي، حيث يدل ذلك التماكن على مجموع الحدوث المستمر بترابطه المركب، كما لو أن الممكن يتحدد بالممكن في علاقة تمفصل. إنه ليس ممكناً إلا لأنه يظل ممكناً لا بمحض الإمكان، بل بمقتضى كونه يكون مع الأشياء الموجودة. هذا يقودنا إلى تأويل أساسي هو أن الممكن المتماكن وحده قابل للترجمة، كونه يحوز في ذاته القدرة التي تجعله متعينا في علاقة التماكن، وأن محض الممكن غير قابل للترجمة، كونه ليس داخلاً في علاقة، ولا في سياق العالم، إذ يظل فاقداً للدلالة، أو قد تكون له دلالة ما، ولكن في عالم ليس هو هذا العالم، بما هو عالم انتشار الموجود الذي يتعين كتعبير، أو بالأحرى يتعين كمرآة تترجم الكون كله. وبناء عليه، يمكننا أن نقول إن التماكن هو شرط إمكان كل ترجمة بالفعل؛ وذلك لأن الفعل الترجمي، أياً كان نوعه، لا يبدأ إلا مع قول ليس ممكناً وحسب، بل متعينا في لغة الغير، داخل علاقة تماكن تجعل الذات قادرة على فهم اللغة الأخرى، وعلى التعبير عن الأثر بلسانها الخاص. إن مفهوم التماكن، من خلال هذا التأويل هو المرادف الأصيل للترجمة، أو للغة عينها كوجهة نظر للعالم، على نحو ما ذهب إليه، هومبولت متأثرا بلايبنتس. فمن المعروف، كما لاحظ غادامر «أن هومبولت ذهب إلى أن كل لغة يجب أن ينظر إليها على أنها وجهة نظر معينة للعالم، وبحث في الشكل الداخلي الذي يفترق فيه الحدث الأصلي الذي تتشكل فيه لغة ما عن اللغة الأخرى، ولا تكمن في هذه النظرة فلسفة مثالية فقط، تؤكد الدور الذي تلعبه الذات في العالم، إنما هناك أيضاً ميتافيزيقا الفردية التي كان لايبنتس أول من بلورها. ويعبر عن هذه الميتافيزيقا كل من مفهوم القوة العقلية، الملازم لظاهر اللغة، ويعبر عنها على نحو خاص زعم هومبولت القائل إن القوة العقلية هذه -أي الحس الداخلي للغة- لا تقوم بتمييز الأصوات فقط بل بتمييز اللغات ككل، وهو يتحدث عن ‘فردية الحس الصميمي في الظاهرة’ ويعني بهذا ‘طاقة القوة’ التي بموجبها يؤثر الحس الداخلي على الصوت. وهذه الطاقة، كما هو واضح، لا يمكن أن تكون هي نفسها في كل مكان. وعليه، فهو يتبنى، كما نرى، مبدأ عصر التنوير؛ أعني رؤية مبدأ التفرد في مقاربة الحقّ والكمال. والاختلافات في بنية اللغة الإنسانية جزء من الكون المونادولوجي الذي ذهب إليه لايبنتس»[18]. وهذا نفسه ما وضحه هايدغر، من قبل، بخصوص بحث هومبولت في اختلاف اللغة البشرية الذي يؤثر على تطور الجنس البشري، وهكذا يجلب هومبولت اللغة من حيث هي نوع وشكل لرؤيا العالم التي تتم بلورتها في الذاتية البشرية إلى اللغة؛ أي إلى «سلسلة من القضايا التي تتكلم لغة ميتافيزيقا عصره، تلك اللغة التي تقول فيها فلسفة لايبنتس كلمة حاسمة، وهذا ما يفصح عن ذاته بأوضح كيفية في أن هومبولت يحدد ماهية اللغة بوصفها Energeia، إلا أنه يفهم هذه على نحو غير إغريقي تماما كفاعلية للذات حسب تصور مونادولوجيا لايبنتس»[19].

تستند الاختلافات في بنية اللغة الإنسانية على مبدأ اللامتمايزات، وإذا كان كل جوهر فردي يعبر عن تمايزه بخصوصيته، كونه وجهة نظر للعالم ومرآة لكل الكون، فإن اللغات أيضاً هي التعبير الأوضح عن التمايزات، لهذا تنكشف كلغات يعتبرها هومبولت بدوره بمثابة «مرايا تعكس خصائص عقليات الأمم»[20]. لهذا يرى هومبولت، في تأثره بهذا المنظور الفردي، أن هناك «ترابطا لا تنفصم عراه بين الفردية والطبيعة الكلية، فبمعية الشعور بالفردية يعطى معنى كليانية ما أيضاً…كما أنه انطلق من افتراض مفاده أن اللغات نتاجات لقوى الإنسان العقلية. فحيثما تكون هناك لغة، فهذا يعني أن القوة اللـفظية الأصلية للعقل الإنساني قيد العمل، وأن كل لغة قادرة على تحقيق الهدف العام الذي تصبو إليه قوة الإنسان الطبيعية هذه. وهذا الكلام لا يحول دون القول بحقيقة أن مقارنة اللغات أمر يقتضي معيار الكمال الذي على وفقه تتمايز»[21]. ومن الواضح أن هذا التصور للغة يستند، من جهة معيار الكمال، إلى مبدأ العلة الكافية الذي لا يوجد إلا في الأنسب، ويعني لايبنتس بالأنسب «درجات الكمال الحائزة عليها هذه العوالم»[22]. وإذا كان لايبنتس قد ذهب بعيداً في تصوره للكمال، إلى الحد الذي جعله يفكر في لغة عالمية (characteristica universalis) هي بمثابة فن الابتداع (ars inveniendi) كاكتشاف للحقائق بطريقة رياضية، يبلغ من خلالها «العقل المفكر نفسه كماله المطلق»[23]، فإن هومبولت قد ذهب إلى اعتبار مبدأ الكمال مشتركا بين اللغات كلها؛ إذ إن جميع اللغات تشترك في «مسعاها لتحقيق اللغة الكاملة»[24]؛ وذلك لأن العالم الذي يكتمل كرؤيا للوجود «أمر يعتمد على اللغة. فالعالم بوصفه عالماً يوجد من أجل الإنسان، وليس من أجل أي مخلوق آخر في العالم، غير أن هذا العالم لفظي من حيث طبيعته. وهذا هو لبّ تأكيد هومبولت القائل إن اللغات رؤى للعالم. ويعني هومبولت بهذا أن اللغة تحافظ على نوع من الحياة المستقلة بمقابل الفرد العضو في مجموعة لغوية؛ فبقدر ما ينمو هذا الفرد في مجموعته تهديه إلى توجه وعلاقة معينة بالعالم كذلك. ولكن الأساس الذي يقوم عليه هذا الكلام غاية في الأهمية: وهو إن اللغة لا تتمتع بحياة مستقلة عن العالم الذي يبلغ اللغة من ضمن اللغة… والقول إن اللغة هي في الأصل إنسانية يعني في الوقت نفسه أن وجود الإنسان في العالم هو وجود لغوي أساساً. وسوف يتعين علينا أن نبحث في العلاقة بين اللغة والعالم من أجل أن نحرز أفقاً ملائماً لحقيقة أن الخبرة التأويلية لغوية من حيث طبيعتها»[25]. يقود هذا التأويل إلى إمكانية الترجمة بوصفها تعبيراً عن رؤية جديدة للعالم في أفق الخبرة التأويلية؛ ومعناه أن كل لغة رؤية للعالم، إنما ترجع إلى ما يقال في هذه اللغة وينقل لنا عبرها. لقد لاحظ هومبولت مرة «أن تعلم لغة أجنبية يتضمن اكتساب موقف جديد من رؤية الفرد للعالم السابقة»؛ ويستطرد في قوله: «لكوننا دائما ما نرحل كلياً تقريباً رؤيتنا الخاصة للعالم، أو حتى رؤيتنا اللغوية، إلى لغة أجنبية، بسبب ذلك فقط لا يتم تجريب هذا الإنجاز بطريقة محضة وكاملة»[26]. وما يعد هنا تحديداً ونقصاً بنظر غادامر، إنما تكمله الخبرة التأويلية، كما أن اكتساب موقف جديد من «رؤيته السابقة للعالم» لا يتأتى بتعلم لغة أجنبية بحد ذاته، بل باستخدام هذه اللغة من خلال التحدث أو بدراسة أدبها. و«مهما كانت إمكانية الفرد لتبني إطار عقلي أجنبي إمكانية ضليعة، فإنه مع ذلك لا ينسى رؤيته للعالم ورؤيته اللغوية. فالعالم الآخر؛ أي إن عالم اللغة الأجنبية، الذي نواجهه هو في الحقيقة ليس أجنبيا فقط، إنما هو على صلة بنا أيضاً، وهو لا يمتلك حقيقته الخاصة في ذاته فقط، ولكن من حيث علاقته بنا أيضاً»[27].

يمكننا أن نفسر هذه العلاقة بوصفها علاقة تماكن (compossibilité)؛ أي علاقة ربط على نحو لايبنتسي، وهكذا ليست كل ترجمة ممكنة، ما لم تكن متماكنة، إذ ترجمتنا لعالم آخر تقتضي أن يكون انتماؤنا إلى لغة متماكنة؛ أي ليست ممكنة وحسب، بل متحققة كرؤية للعالم، توجد مع وإلى جانب لغات متماكنة أخرى، هي بمثابة رؤى للعالم. إن التماكن لا يضمن تعين لغة في ذاتها، كتعبير عن عالمها الخاص فقط، بل يضمن أن تكون على صلة بلغات أخرى أيضاً. أما أفق الغربة، بل والغرابة الناتجة عن انعكاس عالم الآخر، كعالم غير مألوف للذات، فإن الخبرة التأويلية تعالجه انطلاقاً من علاقة التماكن عينها؛ ومعنى ذلك كما يقول غادامر: «إن تعلم لغة أجنبية، وامتلاك القدرة على فهمها- وهذا ما نعنيه بشكلانية الملكة- لا يعني سوى أن يكون المرء في موقع لقبول ما يقال فيها كشيء يقال له هو. وممارسة هذه القدرة على الفهم تعني دائماً أن لما يقال تأثيراً على المرء، وهذا الأمر محال إن لم تكن ‘رؤية المرء للعالم ورؤيته اللغوية’ مندرجة في ذلك أيضاً»؛ أي إنه غير ممكن من غير تماكن تمارس فيه القدرة على فهم ما يقال في عالم متماكن آخر، وكأنه يقال للذات في عالمها الخاص. وبناء على ذلك تتحقق الترجمة في علاقة التماكن، بوصفها تربط بين عالمين متماكنين، عالم نترجم إليه هو عالمنا، وعالم نترجم منه هو عالم الغير، وليس ذلك وحسب، فما ينتج عن هذه العلاقة عالم متماكن آخر، يتشكل بلساننا، لكنه لا يعبر عن لساننا، بل يعبر عن رؤية الغير كما فهمناها في لسانه، وهذا العالم المتماكن ليس إلا عالم الترجمة.

4- كيف تغدو الترجمة ممكنة؟

هذا السؤال يضعنا في صلب سؤال الميتافيزيقا عينها من جهة كونها موضوعا لفهم إمكانيتها؛ أي فهم الكيفية التي تغدو من خلالها ممكنة، انطلاقاً من فهم ماهية الفهم عينه، وهو من جهة أخرى يضعنا في قلب الهرمينوتيقا بوصفها فنّاً وعلماً للـفهم. وما دام السؤال مرتبطا بالفهم كإمكانية أصيلة لتعيين كيفية الحدوث، فإن السؤال أعلاه يتعلق أيضاً من جهة ثالثة بالترجمة، كونها تجربة ينطبق عليها المبدأ الأعلى للـفهم المحض؛ أي كأساس لشرط إمكان كل ترجمة؛ إذ إن الفهم في الترجمة لا يظهر كوسيلة لتحقيق النقل من لغة إلى أخرى فقط، بل يصير الفهم، بما هو فهم، من قبلُ، قاعدة للترجمة، من حيث هو أساس وينبوع لإمكان تطابق مبدأ الفهم مع موضوعات، تعرض كظواهر للخطاب لأجل الترجمة. بهذا المعنى، نكون بالفعل أمام تصور للـفهم يستمد أسسه من كانط بوصفه أفقاً للتأويلية الحديثة التي تمتد من شلايرماخر ودلتاي إلى هايدغر وغادامر؛ وذلك لأنه بحسب ما ذهب إليه هايدغر نفسه هو «أول من استطاع ليس فقط أن يقبل ويؤيد ببساطة وجود مبادئ، بل أن يؤسسها انطلاقا من ماهية الفهم ذاته»[28]. بذلك يكون الفهم المحض هو ذاته ينبوع المبادئ؛ وذلك لأنه بالمعنى العام للـفظ هو «ملكة المعارف، وهذه تقوم على الصلة المتعينة بين تصورات معطاة وشيء. لكن الشيء هو ما في مفهومه يتوحد متنوع حدس معطى، والحال إن كل توحيد للتصورات يتطلب وحدة الوعي في التأليف. فوحدة الوعي هذه هي ما وحده يقيم الصلة بين التصورات وموضوع، ويقيم من ثَمّ، مصداقيتها الموضوعية، وما يجعل منها معارف إذن، وما إليه يستند إمكان الفاهمة (الفهم) نفسه»[29]. ومعناه أن الربط هو من عمل الفهم بوصفه قدرة على الربط القبلي وعلى إحالة متنوع التصورات المعطاة إلى وحدة الإبصار، التي هي «المبدأ الأعلى في المعرفة البشرية بأسرها»[30]؛ إذ إن الفهم كما سيوضح هايدغر «لا يستطيع أن ينجز الربط المتمثل إلا إذا تضمن في ذاته كيفيات للتوحيد، قواعد لوحدة الربط والتعيين، إلا إذا انبثقت من الفهم المحض قواعد هو أصلها ومنبعها. الفهم المحض هو أساس ضرورة القواعد، أي وجود المبادئ؛ لأن هذا الأساس، الفهم ذاته، ضروري، وذلك بمقتضى ماهية ذلك الذي ينتمي إليه الفهم المحض، بمقتضى ماهية المعرفة البشرية»[31]. ولذلك يؤكد كانط أن الربط هو من عمل الفهم ويطلق عليه اسم التركيب أو التأليف، وهو يعني به أن الشيء المربوط في موضوع لا يمكن تصوره دون أن نربطه بأنفسنا، إذ إن «الربط هو التصور الوحيد من بين جميع التصورات الذي لا يمكن أن يعطى بالأشياء، بل يمكن للذات وحدها أن تقوم به لأنه فعل من أفعال تلقائيتها. ونرى بسهولة أن هذا الفعل يجب أن يكون واحداً أصلاً، ويصلح بالتساوي لكل ربط، وأن الحل الذي هو نقيضه، على ما يبدو، يشترطه أبدا مع ذلك؛ لأنه حيث لم يسبق للـفاهمة أن ربطت شيئاً، ليس بإمكانها أن تحل شيئاً، لأن بها وحدها إنما أمكن للشيء أن يعطى مربوطا لملكة التصور»[32]. ولهذا، فإن مفهوم الربط بوصفه عملاً للـفهم «ينطوي بالإضافة إلى مفهوم المتنوع وتأليفه، على مفهوم وحدته أيضاً، والربط هو تصور لوحدة المتنوع التأليفية. فتصور هذه الوحدة لا يمكن أن يتولد من الربط، بل إنه بانضيافه إلى تصور المتنوع يجعل بدءاً مفهوم الربط ممكناً»[33]. يقتضي ذلك أن يكون «الأنا أفكر» مواكباً لجميع تصورات الذات. أما التصور الذي يمكن أن يعطى قبل أي التفكير فهو حدوس، لكن كل متنوع للحدس هو على صلة ضرورية بالأنا أفكر في الذات من حيث مصادفته لها، كفعل للتلقائية، فلا ينتمي للحساسية. ولذلك يسميه كانط الإبصار المحض، أو الأصلي؛ لأنه ذلك الاوتعاء الذي «بتوليده لتصور ‘الأنا أفكر’ الذي من الممكن أن يواكب جميع التصورات الأخرى، وبكونه واحداً، وهو هو في كل وعي، لا يمكن أن يشتق من أي تصور آخر، كما أسميه وحدة الاوتعاء الترانسندنتالية، كي أدل على إمكان المعرفة القبلية به»[34]. لذلك يمكن للذات أن تتصور هوية الوعي في تصوراتها المعطاة فقط، بشرط قدرتها على ربط متنوع هذه التصورات في وعي واحد، ومعناه أن وحدة الإبصار التحليلية ليست ممكنة إلا بافتراض وحدة تأليفية ما. وأن «هذه الوحدة التأليفية لمتنوع الحدوس كمعطاة قبليا هي مبدأ الإبصار نفسه الذي يسبق قبلياً كل تفكيري المتعين»[35]. لكن الربط نفسه يؤكد كانط هو من عمل الفهم، بوصفه قدرة على الربط القبلي وعلى إحالة متنوع التصورات المعطاة إلى وحدة الإبصار (die Apperzeption). إن الفهم إذن هو قاعدة الربط كشرط ينتمي لماهية الفهم، وهذا يعني بالنسبة إلى هايدغر «أن الفهم هو أساس ضرورة القواعد عموماً. لكي يأتي ما يتجلى، ما يتبدى؛ أي ما يظهر عموما كقائم قبالتنا إلى أمامنا، يجب أن يتوفر المتبدي مسبقا على إمكان أن يأتي بطريقة ما، إلى الوقوف وإلى الثبات. لكن ما يقوم في ذاته، أي ما يتم جلبه إلى وحدة، ما يكون حاضراً في هذه الوحدة وبالتالي قاراً. الثبات هو الحضور الموحد في ذاته انطلاقاً من ذاته. يشارك الفهم المحض في جعل هذا الحضور ممكناً. ففعله هو التفكير، لكن التفكير هو أنا أفكر، أنا أتمثل شيئاً بكيفية عامة في وحدته وتلازمه. يتبدى حضور الموضوع في استحضاره، في أن يصير حاضراً باتجاهي بفضل التمثل المفكر أي الموحد. لمن يحضر حضور الموضوع، هل لي أنا عرضياً مع أهوائي ورغباتي وآرائي، أو لي أنا كانا يبعد كل ذلك الذاتي ويجعل الموضوع ذاته يكون ما هو: هذا يتعلق بالأنا، أي بمدى وامتداد الوحدة والقواعد التي يجعل تحتها ربط التمثلات، أي في الأساس بمدى ونوع الحرية التي بمقتضاها أكون أنا ذاتي كياناً ذاتياً (Selbst)»[36]. بعبارة أدق، فالفهم بحسب هذا التأويل الهايدغري، هو منبع المبادئ بوصفها منبعا للحقيقة، لإمكان تطابق تجاربنا عموماً مع الموضوعات بفضل موضوعية الظاهرات؛ أي شيئية الأشياء التي من أجلنا. وهذه القراءة الهايدغرية للفهم المحض الكانطي هي بمثابة تأويل يؤصل الفهم بكيفية جذرية، لا كمجرد استعادة لمفهوم كانط وحسب، بل بوصفه إمكانية للتعيين الأنتولوجي لسياق التأويل كتجربة أساسية لفهم الكينونة في أفق الزمان. ولهذا، فإن تصور هايدغر للمعرفة -كما يرى فتحي إنقزّو- «لا يبعد أن يكون (…) سلوكاً تأويلياً معطوفاً على المفصل الأنطولوجي لأعيان الموجودات المركوزة في العالم، ونمط الإقبال عليها، من سنخ هذه البنية الهرمينوطيقية التي تتناهى إلى تمكين التأويل من مقام وجودي أصلاني قبلي، لا يستفاد المعروف عنده إلا بالفهم الأول، والاستباق، والتبين، والحيثية التفسيرية. وكذلك الأمر عند (…) غادامر؛ إذ نجد أن مقولة ‘الفهم السابق’ (Vorverständnis) لا تؤم العملية التأويلية وإجراءاتها فحسب، ‘بل إن استقصاء تاريخ التأويلية يخضع إلى القانون التأويلي الكلي للفهم السابق’»[37].

لقد كان للتأويلية، بتأثير واضح من كانط، بداية أخرى مع شلايرماخر، تمثلت في الرهان على «بناء تأويلية ذات طابع كلي تستوعب التأويليات الخاصة، وتتجاوزها بمنظومة عامة من القواعد التي تصلح شروطاً متعالية لفن الفهم»[38]؛ بمعنى: «البحث عن تأويلية عامة، ذات صلاحية كلية ومعقولة، تفوق الميادين الجزئية التي كانت تنطبق عليها صناعة التأويل، أي البحث عن أساس نظري متين لفن الفهم من حيث هو جامع للـفاعليات التأويلية كلها»[39]. وباعتبار ذلك يكون شلايرماخر قد فكر في الفهم، على نحو غير مسبوق كمبدأ كلي للظاهرة التأويلية، إذ إنه جعل من الفهم علماً منظماً، كاشفاً في الآن ذاته، عن القوانين التي يجري عليها، والقوانين التي يعمل بها. ولهذا السبب «يرى كيمرله أن شلايرماخر، في تاريخ التأويلية، أول من نبه على ظاهرة الفهم في جملتها؛ وقد سعى إلى إدراك إجراءاتها المتواترة عامة (…) فالفهم هو سيرورة مخصوصة مستقلة بذاتها، خاضعة لقوانين خاصة بها»[40]. والفهم لا يتعلق فقط بكيفية، وإنما يتعلق «بنظرية أو صناعة نطلق عليها اسم التأويلية (…)، هذه النظرية لا تتحقق إلا متى ما كانت تعاليمها تشكل نسقاً قائماً على مبادئ واضحة مستمدة من طبيعة الفكر واللغة»[41]؛ إذ إن «كل فهم يرجع إلى لحظتين اثنتين: فهم الخطاب من حيث يصدر عن اللغة المقصودة، وفهمه من حيث هو سيرورة فعلية في فكر ذلك الذي يفكر»[42]. يستند هذا المنظور التأويلي على المبادئ المعطاة قبليا للـفهم في الفكر، وبذلك فاللغة عينها معطاة قبلياً: حيث إن «(…)’كل خطاب يقوم على فكر سابق في الوجود’؛ وكل امرئ ‘هو موضع تتشكل فيه لغة من اللغات بنحو أصيل؛ أما خطابه فلا مجال لفهمه إلا بالنظر إلى جماع اللغة. ولكن من وجه آخر، هو أيضاً عقل في طور النماء المستمر، وخطابه ليس إلا معطى من معطيات هذا العقل الذي هو متعلق بعقول أخرى’»[43]. يترتب عن هذا المسعى نوع من القلب تغدو بموجبه التأويلية سابقة أنتولوجيا على الوقائع؛ إذ إن الوقائع (النصوص، الوثائق، الأحداث) لا تسبق التأويلات، «خلافاً لذلك يتعين الإقرار بأسبقية التأويل على الوقائع، فالتأويل واهب للوقائع»[44]. وبعبارة أخرى، فإن تصور شلايرماخر للتأويل، إنما يندرج ضمن أفق نظرية المعرفة لدى كانط، بوصف التأويل مبدأ من المبادئ القبلية التي تجعل تجربة الوقائع ممكنة. وقد «كان لدلتاي فضل كبير في الإشارة إلى أصول فلسفة شلايرماخر: الأصل الفيلولوجي الرومنطيقي من جهة (فينكلمان، هاين، هردر، فولف) والأصل الفلسفي القديم والمحدث من جهة ثانية (أفلاطون، كانط)، أو بشكل أعم الفلسفة الإغريقية، والفلسفة الترانسندنتالية الألمانية، والحق أن هذين المصدرين هما أساس مشروعه التأويلي، ونظريته في الشرح والتفسير»[45].

إن الأمر يتعلق على غرار كانط بتأسيس هرمينوتيقا أساسية، حيث تكون مبادئها شروطاً قبلية تنطبق على الوقائع النصية. وهذا واضح من خطاب شلايرماخر لسنة 1829 الذي يؤكد فيه أن «الهرمينوطيقا تتدخل حيثما يكون ثمة مؤلف؛ أعني أن مبادئها يجب أن تنطبق على جملة هذا الميدان، لا أن تخص الفيلولوجيا الكلاسيكية فقط»[46]. ومعناه أن التأويل هو مبدأ «يحيط ‘بكل فهم لخطاب الغير’»؛ إذ إن «هناك فهم حيثما ‘يعرض التعبير عن الفكر بالخطاب على المستمع شيئاً غريباً عنه’»[47]. في هذه الهرمينوتيقا الأساسية يغدو التأويل مبدأ المبادئ لكل الظواهر التي تتعين في الحياة العامة كخطابات ومعارف وخبرات. فالتأويل عند شلايرماخر، كما عبر عن ذلك جورج غوسدورف، «يجوب الشوارع؛ إذ هو وظيفة حاسمة في مخالطة الناس؛ ويتدخل في كل الحالات حيثما تكون معرفة الإنسان بالإنسان. إن كل فهم يفترض تشكيل حقل تأويلي، عناصره تتكون من ‘الحضور المباشر لمن يتكلم، التعبير الحي، الذي يكشف عن مشاركة جماع كيانه الروحي، النمو المخصوص الذي تتنامى به الأفكار، بمقتضى الحال، بناءً على النسيج المشترك’»[48]. وفق هذا المنظور تصبح مشكلات الفهم، بما فيها مشكلات الترجمة جزءاً من مجال الهرمينوطيقا؛ لأن الغرض منها تفسير أو توضيح الغامض من أشياء النص، ليكون مستوعباً ومفهوماً. فلا نؤول أو نترجم ما هو واضح وبيّن بذاته، وإنما ينبني التأويل والترجمة على ما هو غامض وعصي على الفهم وما يثير سوء الفهم أيضاً، والذي يقتضي الإيضاح والبيان. كانت هذه الفكرة محورية في تأسيس الهرمينوتيقا عند شلايرماخر مثلاً، عندما يؤكد أن فن التأويل «يذهب من باب أن الفهم الخاطئ يأتي عفوياً، وأن الفهم مراد لذاته ويبحث عنه نقطة بنقطة»[49].

ليس هدفنا من الرجوع إلى اللحظتين النقدية الترانسندنتالية، والتأويلية التي بدأت مع شلايرماخر ودلتاي ثم هايدغر وغادامر، سوى الوصول إلى هدفنا المتعلق باستعادة السؤال «كيف تغدو الترجمة ممكنة؟» والحاصل أن الجواب عن هذا السؤال قد تبلور في المشروع التأويلي برمته، والذي يخلص إلى النتيجة التالية: أن إمكانية الترجمة تكمن في الفهم عينه، لا في شيء آخر، والترجمة ليست ممكنة من غير فهم يحدث في وسط كلي هو اللغة، وما دام كذلك فهو تأويل؛ إذ إن التأويل لا يحدث إلا في الفهم، بل إن «الفهم والتأويل هما شيء واحد أساساً»[50]. وهذا ليس معناه أن التأويل يستنتج من غياب الفهم، بل يعني «أن اللغة بالأحرى هي الوسط الكلي الذي يحدث فيه الفهم، والفهم يحدث في التأويل. ولا تعني هذه العبارة أن لا وجود لمشكلة خاصة في التعبير. فالاختلاف بين لغة نص ما ولغة المؤول، أو الهوة التي تفصل المترجم عن الأصل، ليس مجرد مشكلة ثانوية. على العكس، الواقع هو أن كل مشكلات التعبير اللـفظي هي مشكلات الفهم عينها. فالفهم برمته تأويل، والتأويل برمته يحدث في وسط لغة تتيح للموضوع أن يأتي بكلمات، مع أنها في الوقت نفسه لغة المؤول الخاصة»[51]. إن الوعي بشروط الفهم هو الذي يجعل كل ترجمة ممكنة خاصة إزاء ما يعترض الفهم من مشكلات سوء الفهم. ولذلك، فإن «العملية اللـفظية التي تكون بها محادثة بين لغتين مختلفتين ممكنة عبر الترجمة هي عملية نقل للمعلومات على نحو خاص، وهنا يجب على المترجم أن يترجم المعنى ليفهم في السياق الذي يحيا فيه المتكلم الآخر. بالأحرى يجب أن يصان المعنى، ولكن ما دام يجب أن يكون مفهوما ضمن عالم لغة جديدة، فيجب أن يؤسس شرعيته ضمنها بطريقة جديدة. وهكذا، كل ترجمة، هي في الوقت نفسه، تأويل، حتى أننا يمكن أن نقول إن الترجمة هي ذروة التأويل الذي يكونه المترجم للكلمات»[52]. وما دامت كل ترجمة هي فهم بما هو تأويل، أو هي تأويل يحدث في الفهم، فإنها ليست ممكنة بكيفية حصرية؛ أي في أفق فهم متعين في ترجمة بعينها، كونه فهما لوعي ما لا غير، بل هي ممكنة بكيفية لامتناهية؛ إذ إن الفهم بما هو تأويل لا ينحصر عند حدود تحصيل معين للمعنى حصراً، وإنما هو فهم لا يقبل الحصر، إذ إن الفهم من جهة تعدد الكائنات الفاهمة، هو فهوم، وليس فهماً واحداً. ولذلك، تكون هناك بواعث مشروطة بقانون الفهم ذاته؛ أي من جهة كونه المبدأ الأعلى لكل فهم ذاتي لشيء ما نستقبله كموضوع للـفهم. إن هذه البواعث التي ينطوي عليها المبدأ الأعلى للـفهم، هي التي تجعل انبثاق صيغة جديدة لفهم آخر ممكناً. ولهذا، فإذا كان النص في لغته الأصل متكاملاً أو متناهياً، فإن ترجمته تظل ممكنة دوماً بكيفية لامتناهية حتى داخل اللغة الواحدة المترجم إليها، ليس لأن الترجمات السابقة غير مكتملة، بل لأن هناك بواعث فهم جديد يتشكل في أفق روحي للكينونة. ومعناه أنه في كل مرحلة يتشكل وعي مغاير أو جديد، بمقتضى تحولات العالم، تكون هناك حاجة أشد إلى بزوغ ترجمات جديدة للعمل الواحد نفسه. وهذا يفسر أننا نجد داخل لغة بعينها ترجمات متعددة لأرسطو، وأفلاطون، وابن رشد، ولايبنتس، وهيغل، ونيتشه، وغيرهم.

5- الترجمة والتأويل في أفق الغيرية

كل ترجمة هي فهم للغير بوصفه ذات الآخر، من جهة كون كل آخر سابقاً أنتولوجيا على الذات، باعتبارها رغبة في الآخر، من خلال فهمه، غير أن فهم الآخر ليس معناه احتواؤه في الذات؛ إذ يستحيل إرجاع كل آخر، بما هو آخر، إلى الذات؛ لأنه غير قابل للتملك، وذلك لأنه هو عينه ذات أخرى؛ أي إنه آخر على وجه الإطلاق؛ بل معناه جلب المعنى المخصوص لغيريته إلى المجال الخاص لكينونة الذات بصفتها رغبة في الآخر من جهة الفهم، بمقتضى الاحتياج الأنتولوجي للغير.

يحيل مفهوم الاحتياج الأنتولوجي للغير، إلى الوضعية البشرية لما تكون عليه الذات كوجود منفصل مستقل، غير أن هذا الوجود هو وجود متناه منخور بنقص أنتولوجي، يجعل وجوده دوما في حاجة إلى شيء آخر، سواء كان هذا الشيء من جنس العناصر الطبيعية التي تحقق إشباع الحاجة، أو كان هذا الشيء من جنس ذوات أخرى لتحقيق إشباع رغبته في الغير؛ أي كجواب عن وضعية وجوده الخاص، كوجود في حاجة للغير، وكموجود بمعية ذوات أخرى مشتركة؛ لأنها لا تتشارك العالم نفسه وحسب، بل لأن عالمها المشترك ليس ممكناً إلا بمقتضى احتياج أنتولوجي، يجعل كل ذات تسعى كرغبة في الغير، من أجل فهم الغير من جهة، ومن أجل استكمال فهمها لذاتها؛ أي من أجل إنجاز مشروع كينونتها. وهذا السعي لإنجاز الكينونة من خلال فهم الغير، ليس هو منبع الترجمة وحسب، بل إنه الترجمة بعينها منكشفة في أفق الغيرية. كما أن الترجمة وفق هذا المنظور هي الكينونة المنجزة، لا لأنها تمنح كينونة لعمل الغير الذي نستعيده في عالم لغتنا الخاص فحسب، بل لأنها أيضاً تمنحنا أفقاً مغايراً لكينونتنا الصائرة، فمع كل ترجمة يتغير مشهد في الوجود المعطى طبيعياً أو حتى ثقافياً، ولهذا أيضاً يحمل كل مشروع للترجمة، مشروعا للكينونة، أو لأفق جديد للعالم.

إن العالم لا يتحول إلا لأن كل تحول فيه إنما يحدث في الترجمة. وهكذا فنحن نترجم لنكون، لا لنوجد فحسب؛ وذلك لأن الوجود هو معطى لنا، أما ما نكونه فهو من عمل قدرتنا على فهم غيريتنا وغيرية الآخر في العالم، حيث يمكن أن نقول إن الترجمة والكينونة هما الشيء عينه، لكن بأي معنى نفهم الترجمة؟ إننا لا نفهما إلا كغيرية تنجز ذاتها ترجمةً للكينونة، ومعناه أن كل ما نترجمه لا يخلد في ذواتنا كأعمال نتلقاها بفهم أُثر الغير وحسب، بل أيضاً ما يبصمه فهمنا للغير في ذواتنا بسبب الغيرية التي تجري في عروقنا. وبهذا المعنى، تكون الكينونة معطاة للترجمة بما هي الحدث الأصيل للوجود كحدث لانتشار العالم وكفضاء روحي للكينونة المشتركة، بوصفها تعبر عن الأفق المفتوح للعالم للتجربة الممكنة للبشرية. وليس هذا العالم كما يراه هوسرل «مجرد ما يمكن أن أعرفه أنا ذاتي انطلاقا من تجربتي الخاصة فحسب، إنه ليس أبداً مجرد ما اكتسبته وما يمكنني أن اكتسبه مع الأشخاص المنتمين لدائرتي الأقرب أو لدائرة قريبة للجماعة الحياتية والتواصلية من خلال العلاقة المتبادلة. إن نسبية معنى وجود العالم كونه عالما للتجربة الممكنة تمتد إلى أبعد من ذلك دون نهاية. إن لها أخيراً أفقاً معالقاً هو البشرية ‘اللامتناهية’ التي تتوفر دائماً بالنسبة لي على صلاحية. إن العالم المعطى في يقين من الوجود في كل مرة بكيفية عينية مع محتواه التمثلي الكامل هو عالم لأفق مفتوح…»[53]؛ أي إنه دائرة تتوفر على صلاحية للوجود تتمثل في الأفق الأقصى للبشريات اللامحددة تماماً، ولكنها مع ذلك توجد بكيفية ما في علاقة معنا عبر توسطات عديدة مشاركة في تحديد عالم التجربة والمعرفة والانفعالية والفعالية الممكنة، بوصفها إمكانيات للدخول في علاقة فعلية، من خلال المشاركة في الصلاحية. وبذلك «هناك إمكانيات مفتوحة لتحديد أوسع لمعنى العالم الذي له صلاحية بالنسبة لنا، عن طريق تبني مكتسبات الوجود المنتمية لهؤلاء الأشخاص. من ناحية أخرى فإنهم هم أنفسهم مع قدراتهم وحياة وعيهم معروفون بالنسبة لنا عن طريق تجربتنا المتعلقة بهم (الاستشعار، تجربة الآخر) كونها مكونا لعالمنا»[54].

يمكننا تأويل هذا العالم بوصفه عالم الترجمة المفتوح، كونه يتخذ انطلاقاً من العلاقات المتبادلة الحية والمتغيرة، والتي توجد بين الذوات والذوات الفردية، وبين الذاتيات من درجة عليا دائماً معنى جديداً في حركة لا تنقطع من النسبية، كما أن هذا العالم الذي له صلاحية بالنسبة إلى كل ذاتية يتخذ معنى العالم للجميع، العالم الذي يتمثله كل واحد انطلاقاً من نفسه وحسب كيفيته. «كل واحد له تمثله للعالم. هذا هو العالم الذي له صلاحية الوجود في حركية لحياة وعي العالم لدى الفرد، انطلاقاً من معيشاته، ومن تجاربه، وفعالياته، وانطلاقاً من اتصاله مع الآخرين… وأخيراً انطلاقاً من أخبار أو إخبارات غير مباشرة جد عائمة لذوات أخرى مجهولة تماماً… كل ذلك يتطلب تأويلات لتلقائية العالم، كونها عالما لحياتنا في العالم، العالم الذي نعيش فيه بوعي دائماً بكيفية انفعالية وفعالة»[55]. إذن، فالتأويلات التلقائية للعالم، إنما تتأسس في بنية علاقة غيرية غير محدودة، بما أنها لا تقتصر على الدائرة الخاصة بالذات، بل تتعداها إلى الدائرة البشرية اللامتناهية، وفي صلب هذه العلاقة الغيرية المفتوحة، يغدو توسيع معنى العالم من خلال المشاركة في الصلاحية مهمة تأويلية؛ لأنها تستدعي دوماً الدخول في تجربة فهم الغير عن طريق تبني مكتسبات الوجود المنتمية لهذا الغير، والذي هو بدوره قابل لمعرفة حياة وعيه من خلال استشعار، وتجربة الآخر. إذن، فإن حياة وعينا هي امتداد قصدي لوعي نحو آخر ونحو كل آخر، وهو امتداد فعلي وممكن يتعلق بالتمثل والصلاحية. وبفضل هذا الامتداد المتبادل، يكون من غير الممكن أن يفتقد العالم بالنسبة إلى الذات، وبالنسبة إلى كل أنا آخر مكونات المعنى والصلاحية افترضتها ذوات أخرى متواجدة. بهذا المعنى، نشارك في وحدة حياتنا التي هي حياة تبليغ وتواصل عن طريق التعبير، عن طريق اللغة، وذلك في عالم يعتبره هوسرل بمثابة «عالم للجميع»[56]. بأيّ معنى يؤسس هذا المنظور لقاعدة صلبة للترجمة؟ ليس ذلك ممكناً إلا بالمعنى الذي تدخل فيه كل ذات في علاقة المشاركة في الصلاحية، حيث تكون مكتسبات حياة الغير مندمجة في حياة كل ذات، من خلال معطى موجود له سلفاً أفق يحيل إلى مشاركة الآخرين في الاشتغال عن طريق الاستقبال المتفهم لمكتسباتهم في أرصدة معنى الوجود الخاص بالذات.

إن الترجمة هي التعبير الصميم عن هذه المشاركة في صلاحية للمعنى غدت مشكلة لأفق كينونة مفتوح، بما هي وعي، وبما هي تفهّم للغير يستقبل خبرات تجارب البشرية في امتدادها اللامتناهي. بهذا المعنى أيضاً، تدخل الترجمة في تأويل نمط الكينونة، بوصفها لا ما قد كانته في ذاتها، بل ما ستصير إليه مستقبلاً بفضل الترجمة؛ إذ إن الترجمة ليست مجرد نقل وتحويل لعمل الغير فقط، بل هي أفق للتغيير كذلك، أفق لتعديل نمط الكينونة. ولهذا للترجمة ما بعدها، وما بعدها يتمثل في التأثير الذي تمارسه على أنماط وجود الذاتيات، وعلى طرائق التفكير، ومناهج البحث، وعلى تصورات الوجود، وبصفة عامة على الحياة برمتها. إن الترجمة بمعنى جذري، تطالب بكينونة جديدة؛ أي بكينونة تترجم ذاتها دوماً في أفق الغيرية، بل إن الترجمة ليست تعبيراً عن أفق للغيرية وحسب، بل هي الغيرية ذاتها، كونها تكشف ماهية الكينونة ذاتها، وبذلك فكل كينونة تعبر عن العالم بكيفيتها الخاصة، هي ترجمة تجعل كل موجود من جهة وعيه، موجوداً لأجل الكينونة، وبذلك يتعدى موجوديته المعطاة سلفا، فيصير من جهة ما يقدر عليه وعيه، كينونة خاصة مشاركة في عالم لا ينفك عن الترجمة؛ ومعناه أن الترجمة هي صناعة العالم.

[1]– E. Lévinas, Totalité et infini, Essai sur l’extériorité, Martinus Nijhoff, 1971, p. 250

[2]– E. Levinas. Humanisme de l’autre homme, Fata Morgana, 1972, p. 43

[3]– Ibid., p. 44

[4]– Ibid., p. 45

[5]– لايبنتز، مقالة في الميتافيزيقا، ترجمة وتقديم وتعليق الطاهر بن قيزة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2006، هامش المترجم، ص 55

[6]– غوتفريد فيلهلم لايبنتز، المونادولوجيا أو مبادئ الفلسفة، قسم المبادئ العقلية للطبيعة والنعمة، ترجمة ألبير نصري نادر، منشورات الجمل، بيروت- بغداد، 2015، ص 90

[7]– مارتن هايدغر، مدخل إلى الميتافيزيقا، ترجمة عماد نبيل، دار الفارابي، بيروت، 2015، ص 197

[8]– مارتن هايدغر، مبدأ العلة، ترجمة نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1996، ص 8

[9]– المرجع السابق، ص 100

[10]– لايبنتز، مقالة في الميتافيزيقا، ص 120

[11]– المرجع السابق، ص 123

[12]– اُنظر تعليق المترجم في الهامش رقم 63 من: مقالة في الميتافيزيقا، ص 123

[13]– اُنظر الهامش 62، من المرجع السابق، ص 122

[14]– مارتن هايدغر، مبدأ العلة، مشار إليه أعلاه، ص 136

[15]– عبد السلام بنعبد العالي، في الترجمة، منشورات شراع، عدد 40، ط 1، طنجة، أكتوبر 1998، ص 11

[16]– J.-P. Anfray, “Autant de mondes sans connexion: Leibniz et Lewis sur la compossibilité et l’unité du monde”, Les études philosophiques, N. 164 (2016), p. 540

[17]– الطاهر بن قيزة، ملحق «الثبت التعريفي»، ضمن: لايبنتز، مقالة في الميتافيزيقا، ص ص 218-219

[18]– هانز جورج غادامر، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم، وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، ليبيا، 2007. ص 573

[19]– مارتن هايدجر، كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة إسماعيل المصدق، المشروع القومي للترجمة، عدد 505، القاهرة، 2003، ص 267

[20]– غادامر، الحقيقة والمنهج، ص 573

[21]– المرجع السابق، ص 572

[22]– لايبنتز، المونادولوجيا أو مبادئ الفلسفة، مشار إليه أعلاه، ص 66

[23]– غادامر، الحقيقة والمنهج، مشار إليه أعلاه، ص 543

[24]– المرجع السابق، ص 572

[25]– المرجع السابق، ص 576

[26]– أورده غادامر في: المرجع السابق، ص 574

[27]– المرجع السابق، ص 574

[28]– مارتن هايدغر، السؤال عن الشيء، حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كنت، ترجمة إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، ص 233

[29]– عمانوئيل كنط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت (د.ت.) ص 102

[30]– المرجع السابق، ص 101

[31]– مارتن هايدغر، السؤال عن الشيء، مشار إليه أعلاه، ص 236

[32]– عمانوئيل كنط، نقد العقل المحض، ص 99

[33]– المرجع السابق، ص 99

[34]– المرجع السابق، ص 100

[35]– المرجع السابق، ص 101

[36]– مارتن هايدغر، السؤال عن الشيء، ص 236

[37]– فتحي إنقزو، معرفة المعروف، تحولات التأويلية من شلايرماخر إلى ديلتاي، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، الرباط- بيروت، سلسلة «التأويليات»، 2017. ص 15 (نقلاً عن غادامر).

[38]– المرجع السابق، ص 28

[39]– المرجع السابق، ص 96

[40]– جورج غوسدورف، أصول التأويلية، ترجمة فتحي إنقزو، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، سلسلة «التأويليات»، الرباط – بيروت، 2018، ص 507. نقلاً عن:

Schleiermacher, Hermeneutik, hgg. v. Heinz Kimmerle, Abhandlungen der heidelberger Akademie der Wissenschaften, 1959, Introduction, p. 15

[41]– المرجع السابق، نقلاً عن: Hermeneutik, p. 20

[42]– المرجع السابق، ص 508، نقلاً عن: Hermeneutik, pp.138-139

[43]– المرجع السابق، ص 509، نقلاً عن: Hermeneutik, p.139

[44]– المرجع السابق، ص 510

[45]– فتحي إنقزو، معرفة المعروف، ص 77

[46]– جورج غوسدورف، أصول التأويلية، ص 512 (نقلاً عن: شلايرماخر، خطاب الأكاديمية لسنة 1829).

[47]– المرجع السابق، ص 512

[48]– المرجع السابق، ص ص 512-513

[49]– محمد شوقي الزين، الترجمة، الهرمينوطيقا، الاستيطيقا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، مدارج، بيروت- تلمسان، 2018، ص 47

[50]– غادامر، الحقيقة والمنهج، ص 511

[51]– المرجع السابق، ص 511

[52]– المرجع السابق، ص 506

[53]– إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008، ص 467

[54]– المرجع السابق، ص 466

[55]– المرجع السابق، ص 468

[56]– المرجع السابق، ص 465

زر الذهاب إلى الأعلى